قصّها على خوان ديلغادو
عشت في مدينة القامشلي, هناك قضيت أجمل أيام حياتي، حيث الأمان والسلام، فرغم اختلاف طوائفها و لهجاتها إلا أنها كانت مدينة آمنة. لم أفكر يوما بالهجرة إلى أوروبا ، ولكن بسبب الحرب وسوء الأوضاع الأمنية وعدم تمكني من إكمال دراستي الجامعية، قررت السفر، لأني مهما فعلت لن أستطيع تحقيق أحلامي إن بقيت في وطني.
هربت من الواقع الذ ي أعيشه كأي انسان يحلم بالعيش بانسانية و كرامة بعيدا عن السلاح و الدم.
لم يوافق والداي على سفري ولا على ابتعادي عنهما، لكني اصريت على السفر …خرجت من بيتي الذي عشت فيه أجمل أيام طفولتي و شبابي مودعا أبي و أمي و أخواتي و أقربائي، كانت الدموع تذرف من عيوني، لم اكن اتخيل أني سأودع أعز الناس على قلبي، قد كان يوما اسود في حياتي، وفي حياة والديّ اطال الله بعمرهما.
خرجت مع صديقي تهريبا الى تركيا، ورغم قصر المسافة بين القامشلي وتركيا إلا أنها كانت مرعبة، بسبب انتشار “الجندرما” التركية على طول الحدود و إطلاقهم النار على كل من يعبرها.
والحمد لله تمكنت من العبور حيث بقيت أسبوعين، كل يوم صباحا كنا أنا وصديقي نذهب إلى منطقة “اكسراي” المعروفة في اسطنبول كي نلتقي بالمهربين ( تجار البشر).. وهؤلاء ينظرون إلينا و كأننا “كيس” متحرك من المال، وهم يمتازون بالكذب والجشع والطمع غير المعقول، أعدادهم كبيرة جدا فالتهريب بات مهنة من لا مهنة له، وكل شخص منهم يعرض لنا طرقه و ابداعاته في فن التهريب و هم لايكترثون بما قد يصيبنا أو يحصل لنا في الطريق.
في أول زيارة لي لتركيا كنت مبهورا بجمالها و برقي البناء فيها، و أينما ذهبت كنت أرى أبناء بلدي، مهمومين بمتاعب الحياة اليومية و بأخذ قرار السفر خارج تركيا أو الاستمرار فيها. ولكني لم افكر بالاستقرار أبداً في تركيا على الرغم من حسن المعاملة التي يتلقاها السوريين فيها، و السبب أني شعرت بعدم وضوح مستقبلنا فيها كسوريين، تركيا فقط محطة مؤقتة فلن أتمكن من الوصول لأهدافي التي غادرت سوريا لتحقيقها بسبب قلة فرص العمل و ارتفاع الاسعار.
كان السوريون يقصدونها بمدخرات حياتهم طلبا للأمان و تلك لا تلبث أن تنفذ مما يضطرهم للعودة أو الهرب الى أوروبا.
بقيت أياما أبحث عن طريق آمن للخروج من تركيا إلى أوروبا، فكنت اجتمع مع المهربين واستمع إلى اقتراحاتهم؛
منهم من يقترح أن نخرج بالشاحنات من تركيا حتى النمسا، شرط عدم الخروج من الشاحنة مهما حصل حتى لو كلفنا ذلك حياتنا، ومنهم من يقترح الخروج بقارب سياحي من تركيا إلى ايطاليا ومنهم و منهم …..الخ
انتهى بي المطاف أن اتفقت مع أحد المهربين على الخروح من تركيا إلى اليونان بواسطة باص، داخل غرفة منامة السائق معتقدا أني لوحدي حيث الراحة و الهدوء، ولكن عندما حان موعد الخروج صُدمت لأنه رغم المبلغ الهائل الذي أخذه مني المهرب إلا أني لم اكن وحيدا، فقد كان معي رجلان وشاب و امرآة في متوسط العمر، جمعينا في غرفة صغيرة ومظلمة لا تتسع سوى لشخص واحد فقط لا غير.
كنا نتحدث بصوت خفيض جدا خوفا من أن يسمعنا احد الركاب، و بعد أن دخلنا الأراضي اليونانية وتجاوزنا الحدود، توقف السائق وطالبنا بمبلغ إضافي والا فلن يوصلنا إلى المكان المطلوب، فاضطررنا للدفع لتستمر رحلة ال10 ساعات. وصلنا إلى اليونان أو ( مقبرة السوريين) كما صار اسمها بعد ما ارتفع عدد السوريين الموجودين فيها بشكل كبير وملحوظ، فالجميع يحاول الخروج منها للوصول إلى شط الأمان حسب قولهم؛ عائلات، شباب، أطفال، نساء، شيوخ.. الجميع. ففيها يعاني السوريون من سوء المعاملة و الاضطهاد.
بعد وصولي سلمت نفسي لمركز الشرطة للحصول على ورقة الطرد “الخارطية”، بقيت ثلاثة ايام في السجن حتى حصلت عليها، وكانت المرة الاولى في حياتي التي تحجز فيها حريتي داخل سجن. بقيت ثلاثة أشهر في اليونان بحالة من الإرهاق والتعب النفسي والتفكير بالمستقبل.. و التقيت شبابا فيها كما قال المثل: “رب آخ لم تلده أمك”، كانوا قمة في الأخلاق والقيم كما تعرفت على شخص إسباني الجنسية يدعى خوان ديلغادو، لم أعرف انسانا مثله في الطيبة و الشهامة و التسامح، كان كالأخ الكبير.. اعطانا جرعة من الأمل و التفاؤل بالحياة.
مضت الأيام و أنا ابحث عن أي مهرب يمتلك قليلا من الصدق ليخرجني من هذه المقبرة.
لسوء الأقدار التقيت مهرّبا؛ لم أعرف انسانا أسوء منه في حياتي يدعى ( ه.ك) لم اذكر اسمه خوفا على نفسي أولا، وكي لا اقطع الطريق امام كل شخص يائس فقد الامل بالخروج، المهم انني بعد ثلاثة أشهر بالتمام تمكنت من مغادرة اليونان الحمد لله.
عندما جلست في الطائرة لم اصدق نفسي، بدأت أستعيد الأشهر الثلاثة. الحمدلله بعد كل ذلك العذاب وصلت بخير وسلامة للبلد الذي كنت انوي الوصول إليه.
حصلت الان على الاقامة و بدأت مرحلة جديدة من حياتي، مليئة بالاثارة و التحدي أولا لأني سأتعلم لغة البلد الذي قدمت اليه، و ثانيا لأني سأتابع دراستي الجامعية…
و بالرغم من النعم التي نعيشها..فلا شيء أصعب في الدنيا كلها مثل صعوبة الغربة.. أن تعيش بعيداِ عن الأهل و الأصدقاء، الغربة قاتلة بكل ما تعنيه الكلمة، بعد هذا الحديث الطويل أدعو ربي أن التقي يوما ما بأهلي وأن يكونوا بصحة و سلام، واتمنى أن يفرج على بلدي وأن نعود إليها، و نعيش أيامنا ببساطة و سكينة مع الأهل والأصدقاء.
Images: Featured image Welcome to Europe via Flickr, middle image Charles Roffey, bottom Neal Jennings via Creative Commons.