حياة ميجومي يوشيتاكي بين البدو في سوريا
في معرض فوتو لندن في مايو 2024، زرت معرضًا استثنائيًا نظمته السورية رغد مرديني من معرض لايت هاوس. عرض المعرض أعمال المصورة اليابانية ميجومي يوشيتاكي، التي قضت عقودًا في توثيق الحياة بين البدو في سوريا. بصفتي نصف سورية وكبرت على قصص كرم الضيافة البدوية، تأثرت بشدة بصورها وتقت إلى معرفة المزيد عن رحلتها الفريدة.
بدأت يوشيتاكي رحلتها الفردية الأولى إلى سوريا في عام 1987. بعد زواجها في عام 2001، اختارت سوريا كوجهة لشهر العسل. بحلول عام 2004، رافقها ابنها البالغ من العمر ستة عشر شهرًا، فانتقلت العائلة بأكملها إلى سوريا، مما أسس تقليد الزيارات السنوية. من الجدير بالذكر أن يوشيتاكي خصصت جزءًا من كل عام للإقامة مع عائلة بدوية في سوبا، الواقعة في الصحراء السورية بالقرب من تدمر، من عام 1995 إلى 2011. مصطلح “بدوي” يأتي من الكلمة العربية “بادية”، والتي تعني “الناس الذين يعيشون في البرية”. تاريخيًا، كان البدو، الذين يتشاركون مع العرق العربي الأوسع، معروفين بكونهم بدوًا رحل ينتقلون من مكان الى اخر. حاليًا، تفخر المجتمعات البدوية في الصحراء السورية بهويتهم العربية، مع التأكيد على تراثهم الثقافي بالإضافة الى أن اللغة العربية هي اللغة الأصلية السائدة بينهم.
المعرض والفنانة
قدمت لايت هاوس جاليري الصور الفوتوغرافية للمصورة اليابانية ميجومي يوشيتاكي. تلتقط أعمالها جوهر الحياة البدوية، مما يوفر لمحة نادرة وحميمة عن عالمهم .
ثار إعجابي بعمل يوشيتاكي فضولي للاستفسار عن إمكانية إجراء مقابلة معها. بعد التحدث مع رغد مرديني، رتبنا لقاء مع ميجومي يوشيتاكي ومترجمها.
في استكشافي لصور يوشيتاكي، تأثرت بشدة بالعواطف العميقة التي المتجسده في صورها وبالألوان الزاهية التي تصور ملابس البدو والمناظر الطبيعية التي يعيشون فيها. صورها تحكي لك قصصا متجاوزه كل الحدود الثقافية واللغوية..
إلهام غير متوقع
سؤال: هل يمكن أن تخبرينا عن افتتانك الأولي بسوريا وما الذي جذبك لاستكشاف وتوثيق الحياة هناك من خلال التصوير الفوتوغرافي؟
جواب: عندما كنت في الخامسة عشرة من عمري، شاهدت فيلم “لورانس العرب” وانبهرت بالعالم العربي والصحراء. ألهمني هذا الافتتان لأصبح مصورة. كانت رحلتي الأولى إلى سوريا في عام 1987. رغم أنني تعلمت الكثير عن العالم العربي، إلا أنني لم أصور أي شيء منه من قبل. كان ذلك خلال هذه الرحلة حيث التقطت أول صورة لي.
الغوص في حياة البدو
سؤال: العيش مع العائلات البدوية في الصحراء السورية تجربة فريدة جدًا. هل يمكنك مشاركة بعض اللحظات أو التجارب التي شكلت فهمك لثقافتهم وطريقة حياتهم؟
جواب: عندما بقيت لأول مرة مع البدو في عام 1987، كانت الأيام العشرة الأولى صعبة جدًا. كان الفارق الكبير بين حياتي في اليابان وبين حياتهم هائلاً. حاولت أن أعيش مثلهم تمامًا – أتناول طعامهم وأنام كما يفعلون. مع مرور الوقت، تكيفت وبدأت أفضّل بساطة وصدق الحياة الصحراوية
عودتي إلى مدينة تدمر لتجديد تأشيرتي كشفت لي تباينًا حادًا. كانت وسائل الراحة الحديثة في المدينة تبدو أقل أصالة مقارنة بالصحراء. كانت ضيافة ودفء البدو لا مثيل لهما، وأدركت أنني قد وقعت في حب الصحراء. اكتشفت أنني أفضل النوم في الصحراء، محاطة بأصوات الضحك والعائلة، حتى مع وجود بعض الرمل في سريري. في تلك اللحظة أدركت بالفعل مدى حبي العميق للصحراء
كان زعيم القبيلة، مرتديًا الملابس التقليدية، يبدو لي أكثر جمالًا بكثير من سكان المدينة بملابسهم الغربية الحديثة. كان الطعام في المدينة نظيفًا ووفيرًا، ولكنه يفتقر إلى النكهة والرضا الذي وجدته في الوجبات التي تناولتها في الصحراء.
عندما عدت إلى الصحراء بعد إقامتي في المدينة، تغيرت وجهة نظري وطريقة تصويري. في البداية، كنت متوترًا وركزت أكثر على المناظر الطبيعية. ولكن بعد عودتي، تغير نهجي. شعرت بارتباط أقوى مع الناس، وانعكست هذه الألفة في تعابيرهم وفي صوري. وجوه الأطفال، على وجه الخصوص، أصبحت أكثر استرخاءً وفرحًا، …
التقاط الجوهر
سؤال: كتابك “البدوي” يضم صورك من الوقت الذي قضيته مع المجتمعات البدوية في سوريا. ما الذي ألهمك لإنشاء هذا الكتاب، وما الرسالة أو القصة التي كنت تأمل في نقلها من خلال صورك؟
جواب: بدأت في توثيق البدو في عام 1995، قبل وقت طويل من بدء الحرب الأهلية السورية في عام 2011، كان إنشاء الكتاب وسيلة للحفاظ على جمال ومرونة الشعب البدوي ومشاركتهم. أردت أن أنقل ثراء ثقافتهم وعمق إنسانيتهم. على الرغم من التحديات، كانت ضيافتهم ولطفهم دائمًا واضحين.
التغلب على العوائق
سؤال: على الرغم من عدم تحدثك بالعربية أو الإنجليزية، تمكنت من التقاط روايات بصرية قوية من خلال تصويرك. كيف تجاوزت الحواجز اللغوية والثقافية خلال وقتك في سوريا، وكيف أثر ذلك على نهجك في التصوير؟
جواب: صنعت قاموسي الخاص للتواصل. أصبحت الكلمات البسيطة مثل “ماء” أدوات أساسية للاتصال. السرد البصري يتجاوز اللغة. ويمكن للصور أن تعبر عن العواطف والقصص التي تعجز الكلمات أحيانًا عن نقلها. الدكتور جيرو أوريطا، رجل ياباني عاش في حلب لمدة 44 عامًا، ربطني بالعائلة البدوية، مما ضمن سلامتي وسهل اندماجي. ساهم الدكتور أوريطا بشكل كبير في تطوير تربية المواشي في سوريا وكان محبوبًا من قبل العديد من السوريين. توفي الدكتور أوريطا في عام 2008، وقبره في حلب. نصب تذكاري في المتحف الوطني بدمشق، نقش عليه رسالة “في ذكرى الدكتور جيرو أوريطا ورغبة في مزيد من الصداقة”، يشيد بإنجازاته.
دفء وضيافة الشعب السوري
سؤال: لقد ذكرت دفء وضيافة الشعب السوري في كتاباتك. هل يمكنك التوسع في كيف أثرت لطفهم وشعورهم بالمجتمع عليك شخصيًا وشكلت نظرتك للحياة والتصوير؟
جواب: لطف وضيافة الشعب السوري تركت تأثيرًا عميقًا علي. شعورهم بالمجتمع وكرمهم جعلني أشعر وكأنني في منزلي في أرض غريبة. علمني قيمة الاتصال البشري والمرونة. الشعب السوري هم الكنوز الحقيقية لبلدهم. على الرغم من التصورات السلبية بسبب النزاع، فإن سوريا لديها تاريخ غني وثقافة وضيافة لا تصدق. أريد أن أعرض هذه الجوانب من خلال تصويري لتسليط الضوء على جمال سوريا وشعبها بدلا من التركيز على النزاع.
الصدى عبر الثقافات
سؤال: لقد تم عرض عملك في أماكن مختلفة، بما في ذلك ألمانيا وسويسرا. كيف تشعرين أن صورك تتردد مع الجماهير من خلفيات ثقافية مختلفة، وما هي ردود الفعل التي تلقيتها على تصويرك لحياة السوريين؟
جواب: غالبًا ما ترى الجماهير سوريا لأول مرة من خلال عدستي. شكرني الكثيرون على مشاركة منظور مختلف عن سوريا، بعيدًا عن النزاع. تردد صدى صوري مع المشاهدين من خلال تسليط الضوء على موضوعات عالمية مثل العائلة والمجتمع والمرونة. الناس من خلفيات ثقافية مختلفة يقدرون الأصالة والإنسانية في عملي.
اتصال مشترك
أثناء استماعي لقصة ميجومي يوشيتاكي، شعرت بارتباط عميق. رحلتها تعكس حكايات كرم الضيافة والمرونة البدوية التي كبرت على سماعها. قلت لها، “يشعر عملك وكأنه إعادة اكتشاف لتراثي.” ابتسمت وأجابت، “هذا هو قوة السرد القصصي، يربطنا بجذورنا وببعضنا البعض.”
لا تزال التزام يوشيتاكي بعرض جمال وثقافة سوريا قويًا، حتى في مواجهة التحديات المستمرة التي تواجهها البلاد. “الكنز الحقيقي لسوريا هو شعبها”، أكدت. “كرمهم وروح مجتمعهم هو ما أأمل أن أشاركه مع العالم.”
من خلال صورها، خلّدت ميجومي يوشيتاكي روح البدو، مقدمة نظرة فريدة وصادقة على حياتهم. عملها لا يوثق وجودهم فحسب، بل يعمل أيضًا كجسر يربطنا بجمال حياة متشابكة بعمق مع الطبيعة والتقاليد.
بينما أختتم رحلتي عبر معرض ميجومي يوشيتاكي، تتردد كلماتها بعمق داخلي. تتحدث عن “ثقافة غنية، طبيعة جميلة، طعام لذيذ، وإحساس بالأمان الهادئ” في سوريا. نظرتها تتحدى الصور النمطية، مؤكدة أن سوريا، على الرغم من تصويرها في الإعلام، تنقل إحساسًا بالأمان يتجاوز حتى بلدها الأصلي، اليابان.
ومع ذلك، ليست المعالم التاريخية أو المناظر الطبيعية الخلابة هي التي تبقى في ذكريات يوشيتاكي؛ بل الناس. تشدد على كرمهم، ورعايتهم الصادقة لبعضهم البعض، والأهمية العميقة التي يولونها للعائلة والمجتمع. في عينيها، وسط الاضطرابات، يقف الشعب السوري ككنوز حقيقية، تتجاوز حتى التراث الثقافي العالمي لبلادهم.
تأتي كلمات يوشيتاكي العميقة لتذكرنا بقوة التعاطف والفهم العميق. من خلال صورها، تدعونا للنظر إلى ما وراء العناوين الرئيسية، لنرى سوريا ليس كأرض نزاع، بل كمكان مليء بالمرونة، والدفء، والإنسانية..
لمى عيسى