ضوء أزرقُ دافئٌ بلون السماء الصافية يحتضن دمشق. أظنّ أنه الفجر. أسير على أرض مرصوفة أو إسمنت مصقول، يرتدّ صدى خطواتي على جدران البيوت حولي. لعلّني أشمّ رائحة التراب المحمول على دوّامات النسيم الّذي يجعلني أرتجف. ربّما أسمع صخب المدينة، أرى خيالات مارقة أو وجوه أطياف الحي التي تبدو مألوفة. لكن، لا أشعر بشيء.
أخي الصغير “مارتن” معي هذه المرة ، هو و صديق آخر. أنا في غاية السعادة لكوني أخيراً سأعرّفهم على “بكداش”. نسرع الخطى عبر شوارع السوق المسقوفة. مُبتغانا مثلجات طريّة مغطّاة بطبقة ثخينة من المكسّرات. ” السقف الحديدي يبدوا مثقوبا بالرّصاص”. قلت لنفسي عندما زرت السوق للمرة الأولى. ” إنّه يحوّل أشعة الشمس لعدد لا يحصى من النجوم، فتبدوا البضائع مسحورة. ” ننعطف يساراً ثمّ يميناً، ننزل درجاً، نمرّ بأكشاكٍ فارغة أو نوافير. في النسيج المرقّع لذاكرة سيئة التنسيق، الوقت ، المكان و النّاس يتغيّرون فجأة. لازال الوقت فجراً، لكن النسيم ازداد برودةً و النّاس حولنا يرتدون ملابس صوفية سميكة. زال السّعي نحو المثلّجات، و نجوب الشّوارع الآن لذاتها المتغيّرة شتويّاً: “آسف يا آنسة، لقد نفذ لدينا السّحلب، تعالي غداً. لدينا “ميلو” ساخن عوضاً عنه، أتودّين أن تجرّبيه؟” و يختفي شيئاً فشيئاً.
يوم آخر. الشّمس في ذروتها هذه المرّة، و أنا كالقطّة أستجمّ في عناقها الدافئ. ابتسامتي تنضح رضا و سكينةَ العودة للمنزل. تكبر تلك الابتسامة و تتعمّق بنزولي عبر الأروقة الضيّقة التي تجعّد جبل قاسيون. أخيراً عُدْت. هذه المرة تمكنت من دخول سوريا بالزحف تحت سور. الشهر الذي سبق تسللتُ أسفل أنف حرس الحدود. و مجدّداً أجد نفسي فجأة في دمشق، كممثل مسرحٍ على وشك ان يبدأ مشهده. استعدْ …. حركة.
هكذا تكون قوّة الأحلام.
فقد حلمت بدمشق مرة في الأسبوع تقريباً في السنوات التسع الماضية. مراراً و تكراراً يعود بي عقلي للبلد، حيث لا يستطيع جسدي الذّهاب. كما تتلمّس الأصابع معالم وجه حبيبٍ أخفاه الظّلام، كنت أجول شوارع مدينتي الحبيبة. حتّى أنّني خطَّطْتُ نسختي الخاصّة منها. و في هذا المكان الآمن في عقلي، أستطيع إحياء تلك الاوقات الذّهبية مرّةً بعد مرة.
أحيانا في أحلامي، بعض الأصدقاء و أفراد من العائلة، الذين لم يتمكنوا من زيارتي هناك، ينضمّون إليّ. أخيراً أستطيع أن أريهم ذلك الجانب منّي و الذي يعرفون عنه القليل فقط. أنستطيعُ نسيان مدينةِ أيامنا الدراسية؟ مع مرور الوقت، تصبح إعادةَ تكوينٍ مثاليةً لشبابنا. ملعباً لذاتنا البالغة.
.
Damascus, you are the city of my frustration and my guilt.
نادراً ما أعود للمكان الذي سكنت فيه. شقّتي التي تطفو على الجبال كعُشِّ طائر، مدرستي المدفونة تحت أشجار أبو رمّانة، مكتبي على الشّارع الرئيسي، شقق أصدقائي المبعثرة في كل أنحاء المدينة، مدرسة القيادة على طريق المطار، مقهى الرّوضة، حيث تابعنا كأس أوروبا، قرب مجلس الشعب، نوادي المدينة الجديدة و القديمة…. لا. الأماكن التي أعود إليها صنع مخيّلتي، مبنية بشكل فضفاض على طبوغرافية المدينة. أُحرِّفهم حسب رغبتي، أجرّهم من مشهد لآخر، من حلمٍ لآخر. لا أعرف أبدا أين سأكون أو كيف ستتطوّر الأحداث ما أن يبدأ الحلم، لكن دمشق مُطَمْئنةٌ دائماً. أحيانا يكون هناك توتّر في الأجواء لكن في الجزء الأكبر منه يكون المنظر هادئا، مأسوراً بذلك الضوء الخافت.
بعض الأحيان تصبح الأحلام أقلّ تكراراً، لكنّها تعود دائماً. في أحلامي، دمشق هي مدينة الصّبا، عاصمة المنفى. إنها عذاب علاقة حب قُطِعت في ذروة شغفها.
هل كنت لأتعلّق هكذا بدمشق لو كنت تمكّنت من العودة؟ غالباً. لكن بشكل أكثر نضجاً، بعد تجربة الحسنات و السيّئات معاً. لكنت أحببتكِ في السّراء و الضرّاء. لكنّني عشت معك السّرّاء فقط.
دمشق، أنت مدينة إحباطي و ذنْبي. إحباطي لعدم تمكني من الذّهاب حيث يحملني خيالي، مالكة جوازِ سفرٍ أوروبّيٍّ نسبيُّ الامتياز، تستطيع التجوال بحريّة في معظم بقاع العالم إن أردتّ. حتّى لو توسّلت، بكَيت، طلبت بلطف، هدَّدت، حتّى لو أردتّ، لو أردتُّ ذلك حقّاً و بشدّة. إحباطٌ في وجه حظرِ سفرٍ اعتباطي لا أستطيع معرفة سببه أو مناقضة شرعيّته. ذنب لعدمِ تمكّني من الوفاء بوعدِ عودةٍ قطعته لأصدقاءٍ قضيت معهم أياماً بكاملها و أزماناً طوالاً. “أترينَ غريبة أخرى قَضتْ وقتاً رائعاً في سوريا ثم عادت لتتابع حياتها هناك من حيث أتت، كتاب صورها مليء بأُناس لن تتمكّن من إعطائهم نسخاً عنها، ناهيك عن لقائهم ثانيةً؟” ذنب كوني عديمة الحيلة في وجه الدموع و الدّماء التي فاضت كسدّ مُحطَّم على هذه الأراضي المُغرقة بالشّمس. و أخيراً ذنب معاناتي من هكذا محنةٍ بسيطة في حين كثيرون فقدوا أكثر بكثير من مجرّد افتتان امرأة شابّة بمدينة
دمشق، مضت تسع سنوات ولا زلتِ تَسكُنينَني
الصور: من. delayed gratification عبر Evening, Ummayad Mosque.
الصورة الرئيسية: كولين هاوسايس.