بصراحة، الكثير من ذكريات حياتي البالغة حدثت في المقاهي أو كانت تتضمن المقاهي في أحداثها
أول لقاء لي مع العديد من الأصدقاء حصل في المقاهي. كتبت رسالة الماجستير في المقاهي، واعدت في المقاهي، التقيت زوجتي لأول مرة في مقهى، وقدمت معظم طلبات الوظائف وأجريت العديد من المقابلات الناجحة في المقاهي السورية
لا أعتقد أنني السوري أو الدمشقي الوحيد الذي سيكتب ما كتبته أعلاه، حتى وإن اعتبره البعض مبالغة. فقد لعبت القهوة والمقاهي دائمًا دورًا مهمًا في حياة الدمشقيين. هذا الهوس بالقهوة انتقل من جيل إلى جيل
افتتحت المقاهي الأولى في دمشق وبغداد والقاهرة وحلب في القرن الخامس عشر قبل أن يذهب مغامران سوريان إلى إسطنبول ويفتحان أول المقاهي هناك. كانت صيحة جديدة قدمها السوريون
في المدينة القديمة في دمشق، هناك زوايا ومحلات وساحات مفتوحة بجانب النهر تُعرف بـ “قهوة”. يمكن العثور عليها في كل مكان في المدينة، في الأسواق وبالقرب من الخانات، أو خارج المدينة – بجانب الأنهار، على التلال، وداخل البساتين. كانت وما زالت المقاهي أماكن للتلاقي والاجتماع. وهي مساحة للدراسة أو كتابة قصيدة أو رواية، وأحيانًا للعب الطاولة (النرد)
عندما أذهب إلى القهوة، أعلم أنني سأطلب القهوة أو الشاي الأسود، أو في بعض الحالات الزهورات (شاي الأعشاب) أو الكمون الساخن بالليمون. كما كان العرف في دمشق، كنت أستيقظ مبكرًا جدًا وأذهب إلى المدينة القديمة، وأتجول في الأزقة الفارغة وأصل إلى القهوة قبل التوجه إلى العمل
أصبحت هذه عادة في آخر سنتين عشتها هناك قبل أن أغادر المدينة للأبد. ما زلت أتذكر الشمس وهي تضرب الكراسي والأزهار في الصباح بينما أتناول قهوتي السورية السريعة على زاوية شارع أو في باحة منزل دمشقي، ثم أندفع للعمل. هذه هي اللحظة الوحيدة في اليوم التي يمتلئ فيها هواء المقاهي برائحة القهوة؛ حيث لم تكن الشيشة خيارًا بعد
كنت أحب الذهاب إلى مقهى كمال، الذي كان يقع بين الأحياء القديمة والحديثة في دمشق. في قهوة كبيرة بها مئات المقاعد، كان للنادل أدوار خاصة
على سبيل المثال، هناك نادل متخصص بتقديم المشروبات ونادل آخر متخصص بلعبة الطاولة وتوزيع الماء، ونادل آخر متخصص بالشيشة ويتولى العناية بها وتغيير الفحم. يسمى هذا النادل بـ”فتى الأرجيلة” أو الشيشة
عندما كنت آتي في فترة ما بعد الظهر، كنت ألاحظ رجلًا يرتدي زيًا يشبه صورة الجوكر على ورق اللعب، وكان دوره إعادة ترتيب أوراق اللعب وتجهيزها قبل توزيعها مجددًا على الزبائن في المساء
عندما كنت أدخل المقهى، كانت تصدمني سحابة الدخان المنبعثة من مئات أنابيب الشيشة. يتبع ذلك صوت مئات النرد التي تصطدم بلوحات الطاولة، وصيحات مئات اللاعبين على أوراق اللعب، وأصوات الرجال الشباب وكبار السن الذين يروون القصص أو يتباهون ببطولاتهم، والموسيقى التقليدية الصاخبة في الخلفية التي تملأ المكان
كثيرًا ما أخطأت بطلب القهوة من النادل الذي يقدم الماء – لم يكن ذلك مجزيًا، حيث كان النادل يتجاهلني ببساطة
بوضوح، لم أكن آتي بما يكفي أو لم أكن وفيًا بما يكفي لأعرف من يقوم بما. ولكن مع الوقت، طورت صداقة مع نادل في منتصف العمر يُدعى حمود. كان رجلاً بسيطاً، قصير القامة، أصله من المناطق الكردية في شمال شرق سوريا ويتحدث بلهجة شامية مكسرة كنت أكذب على حمود وأخبره أن والدتي كردية. كان يحب هذه المعلومة ودائمًا ما كان يقول إنني مثل زرادشت، النبي الفارسي القديم: “نصفك نور ونصفك ظلام”
مقهى “الناصري” كان المفضل الثاني لدي، ويقع عند تقاطع أزقة داخل جدران المدينة القديمة. قال لي المالك مرة أن المقهى موجود هناك منذ أكثر من ١٥٠ سنة
تصميمه البسيط، القائم على الوظيفة، يدل على قدمه. خصصت زاوية لتحضير الشاي والقهوة، مع مساحة للكراسي والطاولات، وعلامة قديمة مكتوبة بخط اليد على مدخله تقول ببساطة “قهوة الناصري”
على عكس مقهى كمال أو أي مقهى مشهور آخر، يقع “الناصري” بعيدًا عن المناطق العصرية في المدينة القديمة. يجب أن يعرف الشخص مكانه، وإلا فسيضيع في الأزقة. في رأيي، هذا ما حماه من التجديدات الكبيرة وعلامات الحداثة
كنا ندخل القهوة الصغيرة التي يحتلها عشرات السكان المحليين وهم يلعبون الورق ويصرخون على بعضهم البعض – كانوا ينظرون إلينا وكأننا سياح من كوكب آخر. أول شيء كنا نفعله هو أن نطلب بسرعة ونعطي المالك بقشيشًا كبيرًا كي يقوم بإطفاء قناة التلفزيون السوري الرسمية ويشغل أغاني أم كلثوم بدلاً منها
في العقد الأخير، بدأت المقاهي الحديثة بتصميماتها العالمية بغزو البلاد. حملت المقاهي أسماء فرنسية، وإيطالية، وإنجليزية وقدمت أصنافًا دولية من القهوة، سواء الإسبريسو أو القهوة الأمريكية. بدأت بالانتشار مثل الفطر في المدينة. وهكذا أصبح لدينا قهاوي ومقاهي
على عكس المقاهي، كان وجود النساء في المقاهي الحديثة أمرًا طبيعيًا ومؤكدًا. قدمت المقاهي أيضًا خيارات محلية، مثل الشيشة والقهوة السورية. ومع ذلك، كانت المشروبات في المقاهي أكثر توافرًا وبطريقة تقليدية ترفض الزوال. وفي النهاية، أصبحت المقاهي أكثر انفتاحًا على وجود النساء
في عام ٢٠١٣، أجبرت على مغادرة البلاد وبدء رحلة بدأت في كردستان العراق، مرورًا بتركيا، وانتهاءً بكندا. عندما دخلت إلى الشتات، بدأت أقدر العديد من عناصر ثقافتي التي كنت آخذها كأمر مسلّم به
بدأت أقدر القهوة السورية أكثر، وأصبحت الطقوس والتقاليد المحيطة بها واضحة ومتميزة في ذهني. في كردستان، بين شعب يقدر الشاي الأسود المركز والمحلى، كنت أفتقد القهوة السورية
في تركيا، كانت القهوة تبدو كالقهوة السورية وتقدم بطريقة مماثلة، بنفس حجم وشكل الفناجين، وبنفس البراد. لكنها كانت شيئًا آخر. في غازي عنتاب حيث كنت أعيش، كان هناك مقهى سوري يصنع القهوة السورية من الصفر أمامي مباشرة. هناك شرح لي العامل الفرق الرئيسي بين القهوة السورية والتركية
تُصنع القهوة السورية من حبوب بن الأرابيكا المحمصة الداكنة، والمطحونة ناعماً. يفضل معظم السوريين أن تكون قهوتهم مطحونة بالهيل. بالمقابل، القهوة التركية عبارة عن تحميص متوسط ولا يضاف إليها الهيل. في طريقة التحضير، يفضل السوريون أن تُمزج القهوة لدقائق قليلة، إذ يعتقدون أن كلما كانت القهوة أكثر غليانًا، زادت جودتها
لا يقوم الأتراك بذلك، خاصة مع انتشار آلات القهوة التركية التي تقوم بغلي الماء مرة واحدة. والنتيجة هي أن القهوة السورية قوية ومركزة، مع نكهة الهيل الواضحة. سمعت العديد من السوريين يتذمرون من القهوة التركية، وسمعت الكثير من الأتراك يعبرون عن عدم استمتاعهم بالقهوة السورية. سمعته من أصدقاء سوريين وأتراك بعد أول رشفة: “هذه ليست قهوة!”عندما انتقلت واستقريت في كندا، أصبحت القهوة السورية عنصرًا آخر من عناصر هويتي الثقافية. اليوم، أشتاق إلى المقاهي القديمة في دمشق، حيث توقف الزمن منذ مئات السنين. أشتاق إلى رائحة وصوت المياه المتبخرة من الشيشة، وضحكات لاعبي الطاولة، وصيحات وشتائم لاعبي الورق ما زلت أحب وأقدر جميع أنواع القهوة – نعم، بما في ذلك التركية – لكن بدأت أشعر أن العديد من جوانب ثقافتي السورية مخفية عن العالم، وتحتاج أن تُعرض، وتُكتب عنها، وتُحتفل بها
ترجم إلى العربية بواسطة: إسراء حسام الملاحي