كتابة جمانة الياسري
غادرتنا الشاعرة والكاتبة والفيلسوفة والرسامة إيتيل عدنان فجر يوم الأحد الواقع ١٤ تشرين الثاني/نوفمبر ٢٠٢١. رحلت عن هذا العالم من منزلها في باريس حيث كانت تعيش مع رفيقتها وشريكة دربها النحاتة والكاتبة والناشرة سورية الأصل، سيمون فتَّال.
أتابع منذ رحيلها ما يكتبه عنها أصدقاؤها – وكم هم كُثر – ومن نشر لها كُتباً أو ترجمها أو ساهم في نشر لوحاتها أو كَتب عنها، أو بكل بساطة من قرأ نصوصها وتوقَّف مدهوشاً أمام المساحات اللونية التي تميِّز عملها ليس فقط في الرسم ولكن أيضاً في النسيج. والحقيقة أنه من الصعب جداً تلخيص وجودها الذي استمر قرابة قرن من الزمن. إيتيل عدنان كانت أيضاً ناقدة فنية من الطراز الرفيع وقد درَّست علم الجمال في الولايات المتحدة. عملت كصحفية في سبعينات القرن الماضي وساهمت في تطوير الصحافة الثقافية في لبنان والمنطقة العربية. كتبت للمسرح والأوبرا والسينما، حتى أن لها فيلماً بعنوان “حركة” (Motion، ٢٠١٢)، يضم لقطات كانت قد أخذتها لمدينة نيويورك في الثمانينات. كتبت بالفرنسية والإنكليزية، ترجمت الكثير من أعمالها بنفسها و”رسمت بالعربية”، كما كانت تقول، هذه اللغة التي سُلبت منها بسبب الانتداب الفرنسي على لبنان (١٩٢٠-١٩٤٦)، حيث ولدت عام ١٩٢٥ لأب سوري كان ضابطاً في الجيش العثماني وأحد زملاء كمال أتاتورك في الدراسة، وأم يونانية من سميرنا (اليوم، إزمير في تركيا).
الطيور تحلق تحت المطر
إيتيل عدنان
تنقلَّت إيتيل عدنان عبر القارات وسافرت كثيراً. عاشت في بيروت وكاليفورنيا، تحديداً في ساوسوليتو بالقرب من سان فرانسيسكو، حيث كوَّنت ما يمكن وصفه بالصداقة العميقة مع جبل تمالبايس الذي كتبت عنه ورسمته كثيراً. ومنذ أكثر من عشر سنوات، عادت إيتيل عدنان للاستقرار في باريس حيث درست الأدب والفلسفة في خمسينات القرن الماضي. باريس، المدينة التي شهدت لقاء إيتيل عدنان الأول مع العالم، هي المدينة نفسها التي غادرتنا منها. غزيرة إيتيل. متعددة بلغاتها وأشكال التعبير التي مارستها لتحكي عبرها عن رؤيتها للعالم. إيتيل عدنان مناضلة أيضاً، ضمت صوتها للعديد من القضايا الكُبرى التي حرَّكت القرن العشرين من حرب فييتنام إلى القضية الفلسطينية، مروراً بالحرب الأهلية في لبنان وحركة الحقوق المدنية في الولايات المتحدة وحرب الجزائر، وغيرها الكثير من القضايا النسوية والسياسية والبيئية. أنا شخصياً، تعلَّقت بإيتيل عدنان المؤرخة. نعم، مؤرخة. كان لدى إيتيل عدنان قدرة خارقة على كتابة التاريخ عبر رؤية شعرية تشبه النبوءة، رؤية تتجاوز بلد بعينه أو حدث بعينه لتربط بين سلسلة من الأحداث والأمكنة عائدة بها إلى فجر البشرية، إلى الصراع الأول، إلى جذر ما نعيشه اليوم من حروب وكوارث عربية وكونية. نبيَّة إيتيل. يكفي أن ننظر في ذلك السهم في عنوان قصيدة “قطار بيروت ← الجحيم”، التي كتبتها عُقب أحداث أيلول الأسود عام ١٩٧٠ وموت جمال عبد الناصر (١٩١٨-١٩٧٠) وصعود الكتائب في لبنان، لندرك اتساع رؤية إيتيل عدنان وفهمها للحاضر عبر علاقته بماضٍ عنيف مستمر. تنبأت إيتيل عدنان بالحرب الأهلية في لبنان (١٩٧٥-١٩٩٠)، هذه الحرب التي وثَّقت بدايتها بكلمات ورسومات في “سفر القيامة العربي”، الذي كتبته ما بين عام ١٩٧٥-١٩٧٦ وإن لم يُنشر حتى عام ١٩٨٠. يضم “سفر القيامة العربي” ٥٩ قصيدة بعدد أيام حصار مخيَّم تل الزعتر، يروي الحرب وبتنبأ بثورات وحروب أخرى قادمة، كتلك الشمس التي سـ “تقطع سوريا إلى نصفين”.
وإن لم تكتب إيتيل عدنان بالعربية، إلاَّ أنها كاتبة وفنانة عربية مما لا شك فيه، وفي العديد من الحوارات التي أجريت معها تعيد وتكرر إنها عربية لأن المنطقة العربية تعاني باستمرار من الاستعمار والحروب والهزائم، وأن توالي هذه الكوارث يفرض عليها أن تبقى عربية على الرغم من تشربها للثقافة الفرنسية وتبنيها للثقافة الأمريكية التي وجدت فيها مصدراً آخراً للإلهام والكتابة والرسم. عشقت إيتيل عدنان الطبيعة واللغة وموسيقى الجاز والسينما في أمريكا، وهكذا خلقت جسراً بين كاليفورنيا وبيروت يعبر فوق المدن والقارات والأنهار والبحار، البحر الذي أرادت دوماً أن تكون قريبة منه. وإن لم تُمضِ إيتيل عدنان سنواتها الأخيرة أمام بحر بيروت، إلاَّ أن شهرتها التي أتت متأخرة جداً سمحت لها أخيراً أن تُهدي نفسها شقة تطل على بحر المانش في إيركي في فرنسا. وفي إيركي، أمام شرفة كبيرة تطل على البحر، رأيت إيتيل عدنان للمرة الأخيرة في صيف ٢٠٢١، وكم أنا ممتنة لكوني رأيت يوماً إيتيل عدنان تنظر في عمق البحر.
لا تكفي هذه السطور لرثاء إيتيل عدنان. كما قالت لسيمون فتَّال في أحد المرات، مع رحيلها يخسر العالم أفضل صديقة له. ومن عرفها ولمسته بنورها، يخسر صديقة ونديمة ملهمة وخفيفة الظل كانت تدعو دائماً إلى الاستمتاع بالحياة والحب والمثابرة على الرغم من يقين وحتمية النهايات. يقول الكاتب والمؤرخ اللبناني فواز طرابلسي في رثائه لإيتيل عدنان الذي نشره على فيسبوك يوم رحيلها: “كلما أعجبني نص لإيتيل، أترجمه”. أعتقد أني أفهم ماذا يقصد: عندما يقرأ المرء نصاً لإيتيل عدنان، يشعر أن هذه الكلمات هي بالضبط التي كان يبحث عنها ليقول ما يشعر به أمام جمال العالم وعنفه على حد سواء. كريمة إيتيل. تعطيك كلماتها وفنها بسهولة وإن بدت مستعصية على الفهم في بعض الأحيان. إيتيل عدنان كتبت للعالم ومع العالم، نسجت حواراً متشابكاً مع نصوص وأقوال وأعمال غيرها من الشعراء والفلاسفة والرسامين والأنبياء. اقرؤوا إيتيل، ترجموها، وكل ما أكلتم قطعة حلوى تذكروها أيضاً. إيتيل عدنان كانت طفلة أبدية تحب الحلوى والسُكَّر. قديمة وحديثة على حد سواء. أتتنا إيتيل عدنان من سوريا القديمة، سوريا قبل الحدود، ولم تتوقف يوماً عن أخذنا معها إلى المستقبل وصولاً إلى الشمس والكواكب والنجوم حيث أتخيلها تحوم اليوم.
وداعاً إيتيل عدنان، لعل لنا لقاء في عالم آخر، والصبر والسلوان للعزيزة سيمون فتَّال ولكل أصدقائها ومحبيها.