“أهلاً بكم في سوريا الصغيرة عرض عن عرض في جزء من المدينة لم يعد لديه الكثير ليُظهره” هذه هي السطور الاستهلالية لعرض فريد يجمع الهيب هوب ورواية الحكايات العربية والموسيقى الحية لشاعر عمر أفندم وروني مالي المتفوق في العزف على العود وصانع الإيقاع ثانكس جوي. إن هذه الجملة، وطريقة عرضها، تلخص جوهر سوريا الصغيرة، نظراً لأنه لم يتبق منها الكثير.
وكانت سوريا الصغيرة مجتمعًا متنوعًا امتد من شارع واشنطن إلى ريكتور ستريت في مانهاتن وكان أغلب سكانها مهاجرين مما يُسمى الآن سوريا ولبنان من أواخر ثمانينيات القرن التاسع عشر إلى أربعينات القرن العشرين. وتُشبه سوريا الصغيرة الأحياء الصينية الأكثر شهرةً التي تقع في الكثير من المدن العالمية الكبرى فهي كانت مركزاً حيث جلب المقيميين طرق حياتهم إلى أمريكا في السعي لتحقيق الحلم الأمريكي. لقد شعروا بأنه كان الخيار الوحيد في ظل الاضطهاد الديني والفقر الذي واجهوه تحت حكم الإمبراطورية العثمانية. وبحلول سنة 1924 كان هناك ما يقرب من 200،000 عربي يعيشون في أمريكا.
وكانت سوريا الصغيرة مليئة بالإمكانيات وأصبحت نقطة مركزية من الناحية التجارية والثقافية. وتخصص الكثير من السكان في صناعة المنسوجات والأدوات المنزلية والبقالة حيث بحلول سنة 1908 كان هناك أكثر من 300 شركة مسجلة في دليل الأعمال السوري في نيويورك ولقد أسس السكان منظمات إجتماعية مثل جمعية مساعدة السيدات السورية في عام 1917. وأوضح ملخص اجتماع غير مؤرخة أنّ تم تأسيس الجمعية لمساعدة “السوريين المِحتاجين” في منطقة بوسطن وأولئك في سوريا الذين قد يكونون في “شّدّة أعظم”. ولذلك تعاون السكان معاً لمساعدة أولئك السورييىن الذين قاموا بالرحلة إلى أمريكا ولكنهم لم ينسوا أصولهم.
وينعكس ذلك في مقال للكاتب كرومويل تشيلد من عام 1899 قد أشار فيه إلى أنّ السكان لم يتركوا “عاداتهم العجيبة” ولم يصبحوا “مواطنين أمريكين عاديين” أيضاً بل عاشوا في حلاً وسطاً أثار الاهتمام عند الغرباء. بلا شك تأثر السكان بالثقافة الأمريكية والذي أدى إلى تحقيق إنجازات هائلة في هذا الحي من بينها نشر الكتاب العربي الأمريكي الأول “كتاب خالد” بقلم أمين ريحاني في عام 1911.
لم تستطع سوريا الصغيرة، مثل المناطق الأخرى في منهاتن، الهروب من الظروف المعيشية الوسخة والضيقة والعنف المشحون بالعنصرية الذي استهدف الأقليات العرقية الأخرى في وقت سافرت فيه جنسيات مختلفة إلى أميركا. مع أنه يُدرس العنصرية التي تستهدف الأمريكيين الأفارقة في الأدب الأكاديمي غالبا ما تنقص دراسات محددة بشأن الجاليات العربية والسورية. إنه هذا المجال الرئيسي يجب مناقشته ولكن نقص الأدب المتاحة بحرية يمنعني أن أتوسّع على ذلك الموضوع أكثر. لقد انتهت سوريا الصغيرة بالأخير في الأربعينيات بسبب بناء نفق بروكلين وغيره من التطورات الشاهقة فلم يتبق سوى ثلاث مبان فقط في هذا الجيب الصغير من مانهاتن، وكما ذكر في المشروع الفني لعمر أفندم، من بينها كنيسة القديس جاورجيوس للسريان الكاثوليك.
علاوة على ذلك، قد تمت دراسة سوريا الصغيرة بشكل مباشر أو غير مباشر من قبل بعض الأكاديميين الرسميين كما في الكتاب “العوالم العربية: ما وراء الشرق الأوسط وشمال أفريقيا” الذي حررته ماريان ف. الكاظمي وكلوديا يواكيم والذي يهدف إلى توسيع واعي المجموعات العربية. وتؤكد المحررة أكدامي أن أحد المفاهيم الخاطئة هو أن الشتات العربي جديد، رغم أنه تشكل في القرن التاسع عشر والذي تعتبر سوريا الصغيرة مثالاً عليه. وتقول إنه على الرغم من أن هذا الكتاب أكاديمي إلا أنه يحاول أن يمليء فجوة الأدب للطلاب العرب لينعكس تجاربهم الحالية.
فكادت أن تختفي تركة هذا الوقت. وعلى الرغم من ذلك قد اجتمع ريتشارد م. بروكس، أستاذ مشارك للدراسات العرقية والإثنية في جامعة ويسكونسن-لاكروس بعض الدليل الثمين وأنشأ مدونة “المهجر الغربي الأوسطي: الأصوات المسجلة للجالية السورية/اللبنانية في الخارج” مخصصة لاكتشاف قصص العازفيين العرب الأمركيين وموسيقى عصر التسجلات بسرعة 78 دورة في الدقيقة .
وهذه هي النقطة أريد أتركز عليها. كطالب التأريخ سابق دراسة هذا الموضوع بحد ذاته هو قيمة، ولكن من وجهة نظر إجتماعية، تأثيره الأكبر هو كيفية تشكيل الحاضر، سواء يكون إلهاماً لفعاليات أشخاص أو يفكر في القضايا المعاصرة أو يكون أساساً للمشاريع الإبداعية. بينما يمكن أن توفر القصص هروبًا مؤقتًا، يمكن أن يتلاشى تأثيرها. تعتبر الأعمال الأكاديمية والعامة التي تستخدم التاريخ لتثقيف الناس أمرًا بالغ الأهمية للتأثير الدائم. وهذا مهم بشكل خاص للعرب والسوريين، لأنه يمكن أن يساعدهم على فهم مكانهم في العالم والتحديات التي يواجهونها اليوم. فهو من خلال دراسة الأحداث التاريخية، يمكننا أن نرى ما حدث وما قد يحدث مرة أخرى، ونقدم دروسًا قيمة للمستقبل.
ولا تزال أزمة اللاجئيين السوريين أكبر حدث تشرد في العالم، حيث تم تسجيل 5.6 مليون شخصاً كلاجئين. سمة مشتركة للهجرة حول العالم هي ميل الأفراد إلى تكوين مجتمعات مع الآخرين من جنسيتهم أو عرفهم بحثاً عن الألفة والأمن. ولكن لا تتطور كل المجتمعات المهاجرة إلى مراكز ثقافية أو مجتمعية تشكل أمكاناً لتجمع عرقيات محددة ومساحات للتبادل الثقافي. ومن الأمثلة البارزة على ذلك الحي الصيني. يُظهر تأريخ سوريا الصغيرة التأثير الإيجابي للمراكز الثقافية لكل من فئة إثنية محددة والمجتمع الأوسع. ومع ذلك فإنه يسلط الضوء على التحديات التي تواجه في المجالات التي لا يتم فيها تبني التنوع ممل يؤدي إلى التحيز والهجمات. أعتقد أن المجتمعات السورية في جميع أنحاء العالم وأي مجموعة من الشتات تعيش بين أشخاص ذوي عادات مختلفة تواجه تحديات مماثلة. سوريا الصغيرة هي مثال لما كان وما يمكن أن يكون وما يمكن تحسينه. يمكن للمجتمع الذي يشارك بنشاط مع الآخرين تعزيز الاندماج والمساعدة في الحفاظ على التقاليد الثقافية، أو ما وصفه تشايلد بـ”عادات عجيبة”. سواء كانت هذه هي النتيجة المرغوبة فهو سؤال للقارئ للإجابة عليه.
الآن، أدعوك للاستمتاع بالعمل الممتاز للشاعر عمر عوفندم، “سوريا الصغيرة”.
كتبه: ريس برادلي