بعد أن لاحظ غياب الدعم لتوزيع الأفلام السورية، قرر أحمد الحاج أن يتولى الأمر بنفسه لسد هذه الفجوة. من خلال مبادرته سينما الرياح، يسعى لإيصال الأفلام السورية إلى خريطة السينما العالمية.
المُحاوِرة: عالية فواز
المترجمة: ملك سلمان
حدثنا قليلاً عن مسقط رأسك.
وُلدتُ في عام 1990 في بلدةٍ تُدعى الحسكة، شمال شرق سوريا، على تخوم العراق وتركيا. تلك البقعة من الأرض كانت ذات يوم جزءًا من بلاد ما بين النهرين، مهد الحضارات وأرض الحكايات الأولى. الحسكة غنية بالتراث، تشكل لوحة فسيفسائية من التنوع الثقافي والإثني. إلى جانب العرب، تحتضن المدينة الأكراد، الآشوريين، الأرمن، الكلدانيين، الإيزيديين، الأتراك، وحتى الشيشان. هذا المزيج البديع من الثقافات والديانات شكّل أعماق شخصيتي، وجعلني أفقًا مفتوحًا على العالم. في عام 2008، انتقلت إلى دمشق، حيث قضيت ثمانية أعوام أستكمل فيها رحلتي الأكاديمية، وأغوص في أزقة عاصمةٍ تختزل تاريخًا ينبض بكل أطياف الحيا.
إذًا، هل كان مغادرة الحسكة أمرًا طبيعيًا بالنسبة لك؟
ربما لأننا من هذه المنطقة في سوريا، نسكنها برحابة لكن روحنا دائماً تحمل شغف الترحال، كأننا بدو بالفطرة. لا أحد من الحسكة إلا وله أقارب في بقاع العالم، وهذه الحقيقة كانت قائمة منذ زمن طويل قبل أن تعصف بنا أهوال الحرب السورية. أما أنا، فقد شكّلني شيء آخر، فقد وقعت تحت سحر السينما الأوروبية منذ الصغر. من خلال “نايلسات” استطعت الوصول الى قناة “تي في فايف موند”، حيث شاهدت أفلامًا فرنسية لمخرجين كبار مثل إيتوري سكولا، فرانسوا تروفو، وكريستوف كيشلوفسكي، وغيرهم من عمالقة السينما الأوروبية. أصبحت سينما “هورس تشامب” خارج الإطار نافذتي إلى عالمٍ آخر، أو كما أحب أن أسميها، “عين الرياح” التي فتحت أمامي آفاقًا كنت أحلم بالانتماء إليها منذ نعومة أظافري.
لا بد أن مشاهدة السينما الأوروبية تركت أثرًا عميقًا فيك عندما كنت صغيرًا؟
بالتأكيد. لقد استحوذت على روحي وفتحت لي عوالم لم أكن أعلم بوجودها. أتذكر أنني شاهدت فيلم “أون هوم ايه أون فيم” للمخرج كلود ليلوش عندما كنت في العاشرة من عمري. في الفيلم، يجسد جان-لويس ترينتيجنان دور سائق سباقات يفوز في سباق للتو. حبيبته الجديدة، التي تؤدي دورها أنوك إيمي، تتصل بالفندق وتترك له رسالة تقول: “برافو، أحبك”. عندما يتلقى هذه البرقية، يندفع بسيارته عبر الليل، من موناكو إلى باريس، وأخيرًا إلى دوفيل للوصول إليها. صُوِّرت المشاهد بطريقة مذهلة، وهو يندفع عبر الساحل والريف والمدن للوصول إليها. إنه مزيج من الرومانسية المجنونة والجرأة، شيء لم أكن قد رأيته من قبل في الحسكة! علمني هذا الفيلم كيف أحب وكيف أطارد أحلامي. منذ تلك اللحظة، أصبحت مدمنًا على هذه القناة، وخلال ثمانية أعوام غرقت في مشاهدة الأفلام الأوروبية، خاصة الأنواع التي تنتمي إلى الواقعية الجديدة الإيطالية، والتعبيرية الألمانية، والموجة الفرنسية الجديدة. بحلول سن الخامسة عشرة، كنت قد عقدت العزم على مغادرة سوريا، لملاحقة السينما والموسيقى التي ألهمتني، بدءًا من أغاني “جيبسي كينج”، وفادو أماليا رودريغز، وبوسا نوفا جواو جيلبرتو، وصولاً إلى إيقاعات الفلامنكو الراقصة. كانت الأفلام والموسيقى هذه تذكرة عبوري نحو عوالم أخرى أثرت في تكويني.
في عام 2014، أخرجت فيلمك القصير الأول “مجرد ثلاثة مسامير: زحل يلتهم ابنه” قبل مغادرتك سوريا، وهو العمل الذي شكّل نقطة انطلاق رحلتك المميزة. حدثنا عن هذا الإنجاز.
لقد أخرجت الفيلم في دمشق وبدأت بإرساله إلى المهرجانات السينمائية. تم عرضه في أكثر من 100 مهرجان. في ذلك الوقت، تلقيت دعوة شاملة التكاليف لحضور مهرجان غرونوبل السينمائي لعرض الفيلم لأول مرة. في سوريا، قمت بتنظيم برنامج في سينما الكندي لعرض عشرين فيلمًا، بما في ذلك فيلمي. بينما حظي الفيلم بتغطية إعلامية، تم تقديم تقرير عنه إلى الأجهزة الأمنية في سوريا. وبعد فترة قصيرة، وخلال غيابي، تم اقتحام منزلي وتفتيشه بالكامل. عندما عدت إلى المنزل، لم أجد جواز سفري الذي كنت بحاجة إليه للسفر إلى غرونوبل. وعندما تقدمت للحصول على جواز سفر جديد، قيل لي إنه يتوجب عليّ زيارة الأجهزة الأمنية. أُبلغتُ بوجود تهمة موجهة ضدي تتعلق بفيلمي وبعض المقالات التي كتبتها كصحفي. خضعت للإجراءات اللازمة لتبرئة ساحتي، وفي عام 2015 تم إسقاط التهمة لعدم وجود أي دليل أو إثبات ضدّي. لكن للأسف، استغرقت هذه العملية وقتًا طويلًا، وفقدت الفرصة لحضور مهرجان غرونوبل. بعد ذلك، انتقلت إلى تركيا وأقمت هناك لمدة عامين. وأثناء إقامتي هناك، قدمت طلبًا للجوء السياسي في القنصلية الفرنسية في إسطنبول، وحصلت على اللجوء السياسي إلى فرنسا، حيث أعيش منذ ست سنوات.
حدثنا عن سينما الرياح. لماذا أطلقت هذه المبادرة؟
عندما أخرجت فيلمي، لم يكن هناك أي دعم متاح. لذا، قمت بكل شيء بنفسي، من اختيار الممثلين إلى البرمجة والتوزيع. أثناء ترويجي للفيلم، اكتشفت أن السينما السورية تفتقر إلى موزعين. لذا، قررت أن أتولى هذا الدور رغم صعوبته. بدأت مع فيلمي لأتعلم، ثم واصلت العمل لدعم الآخرين منذ عام 2015. لقد قدمت دعمي لصانعي الأفلام السوريين في كل المجالات، بدءًا من تأمين التمويل، والاختيار، والإنتاج، وما بعد الإنتاج، وصولًا إلى التوزيع وكل ما يتخلل هذه العمليات. خلال إقامتي في تركيا، نظمت عروضًا أسبوعية للأفلام السورية كل خميس في مكتبة “بوك ستور بيجيز”، بالإضافة إلى شراكات أخرى تهدف إلى جعل السينما السورية في متناول جمهور أوسع. وعندما انتقلت الى فرنسا، قمت بتسجيل شركتي تحت اسم سينيما الرياح. اليوم، أملك في كتالوجي 100 فيلم سوري، وأصبح الناس يعرفونني كمنتج ابداعي، ومبرمج، وموزع للأفلام السورية.
حدثنا عن برنامجك، ثورة الرياح.
ثورة الرياح هو برنامج ذو طابع موضوعي، يتكون من سلسلة أفلام سورية وثائقية وسير ذاتية، تستكشف الهجرة، الحزن، الذاكرة، والتاريخ في ظل الاضطرابات السياسية التي شهدها الربيع العربي. عُرض البرنامج مؤخرًا في نيويورك ضمن فعاليات “آرت ايست” ومعهد الفن العربي والإسلامي. كما كنا في كوبنهاغن في سبتمبر 2024 للمشاركة في الحدث السنوي أيام الوثائقي السوري. حاليًا، أنا في نقاشات لإيصال هذه الأفلام إلى دول أخرى، بما في ذلك فرنسا ومهرجانات السينما العالمية. يمكن القول إنني دائم التنقل للترويج لهذه الأفلام، مصحوبًا بصنّاعها، لضمان عرضها في أكبر عدد ممكن من المهرجانات. أعمل على تنظيم هذه العروض لتكون أكاديمية، تثقيفية، وفنية في آنٍ واحد.
حدثنا عن منصة الرياح حسب الطلب. (Wind on Demand)
أسعى إلى أرشفة الأفلام السورية لتكون متاحة لجميع السوريين حول العالم، وبأسعار رمزية عبر الاشتراك. في الوقت الراهن، لا يستطيع الناس في سوريا مشاهدة هذه الأفلام، وحتى خارج سوريا قد يواجهون صعوبة في الوصول إليها. لذلك، أعمل على الحصول على حقوق الأفلام السورية المعاصرة على الأقل، لحمايتها وتأمين أرشيف آمن لها. أما الأفلام القديمة، فهي تحت ملكية الدولة السورية ولا يمكن الوصول إليها للأسف. منصة الرياح حسب الطلب تمتد لتشمل أفلامًا عربية أخرى، وليس فقط الأفلام السورية.
ما هي مشاريعك الشخصية القادمة؟
أعمل حاليًا على فيلم ذاتي وسيرتين كتابيتين. الكتاب الأول بعنوان 100 كيلوغرام من الحزن وهو سيرتي الذاتية المكتوبة بالفرنسية، وقد وصلت إلى مسودتها النهائية وسيتم تحويلها إلى فيلم. أما الكتاب الثاني، فهو مستوحى من بيان الرياح، هذا البيان يلخص كل ما أقوم به وأسباب انخراطي فيه، وسيتم توسيعه ليصبح في صيغة كتاب. إليك مقتطفًا صغيرًا منه:
“تجزئة الـ’أنا’، كفكرة، تركز على تحليل العلاقة بين الإنسان وذاته المتعددة؛ الظاهرة والخفية، الملموسة وغير الملموسة، المتجانسة وغير المتجانسة. السينما هي المكان المثالي لتجلي صراعات الـ’أنا’، كأنها شبح للحقيقة، صورة مجزأة لتعددية الواقع وما هو أبعد منه.”
اكتشفوا السينما السورية على موقع سينما الرياح. تابعوا مؤسس سينما الرياح، المخرج والموزع أحمد الحاج على إنستغرام.