“بالنسبة لي، كلما ابتعدت عن مدينتي، كلما زادت جاذبيتها”: باسل الحريري حول تذكرِ حلب، واحتضانِ جذوره، وخلطِ الموسيقى العربية التقليدية مع أنواع مختلفة من الموسيقى الغربية.
صباح يوم مشمس إلى حد ما، أحد أيام الأحد من شهر (مارس)، والذي قد يكون مفاجئًا مقارنةً بأحوال الطقس المتقلب في بريطانيا، تمكنت من الاتصال بباسل الحريري لإجراء مقابلة معه عبر Zoom، حيث حرصت كل الحرص على اختيار وقت مناسب لا يتعارض مع موعد لقائه مع زملائه السوريين في جامعة SOAS في لندن.
يخبرني باسل عما يشعر به والذي انعكس على تعبيرات وجهه، قائًلا “لدينا مجتمع سوري نلتقي فيه مع زملائنا الأكاديميين – السوريون الذين يدرسون أو يعملون في لندن – لذا فإن الأمر بالنسبة لنا أشبه بجمعية جمع الشتات”.
باسل أخبرني المزيد عن النادي، هكذا كان سؤالي له، فأجابني بانطباع طفيف للهجة سكان لندن التي لاحظتها أثناء حديثه: “اعتدنا أن نلتقي قبل الحظر بسبب فيروس كوفيد مرة كل شهر، نتحدث فيها عن أمور تتعلق بمستقبل السوريين، على سبيل المثال النشطاء السوريين، الهويات الدستورية … وهكذا، حسنًا هذا هو الاجتماع الأول منذ بدأ أزمة كوفيد، لذا فأنا متحمس جدًا لرؤية أحبائي وعشرتي.”
النشطاء والهوية ومستقبل السوريين، إنها موضوعات ذات باع طويل في حياة باسل وعمله حتى الآن. بصفته عضوًا قويًا في هذا المجتمع “الجمعية” منذ عام 2019، حيث بدأ هذا النشاط خلال الفترة التي قضاها كطالب في جامعة SOAS في لندن؛ باسل، من فضلك أخبرني المزيد عن أهميتها ومدى ارتباطها، خاصة بما يحدث في كل من أوكرانيا وأفغانستان، وكيف يمكن أن يساعد ذلك اللاجئين السوريين على تقديم قصصهم ومعاناتهم في منصة أكبر؛ “في ضوء ما يحدث في أوكرانيا وأفغانستان، هناك أجرينا العديد من المناقشات حول اللاجئين والتهجير … والتي تجري بالتوازي مع مناقشة الوضع في سوريا.”
يشرح باسل وجهة نظره من خلال اقتراح وسيلة يمكن للسوريين من خلالها تشجيع الانخراط فيما بينهم خاصًةً، وبينهم وبين عامة الناس بصفة عامة لزيادة الوعي حول محنتهم، قائلاً: “هذه طريقة جيدة يمكن للسوريين من خلالها عرض الروايات والتجارب السابقة في المقدمة، ومن ثم إجراء مقارنات بينها وبين الروايات الجديدة حاليا.”
يعتبر الربط بين القديم والجديد وتجسيرهما هدفًا بارزًا من بين العديد من أهداف باسل ومشاريعه. بعد أن “غادرت سوريا بلا عودة” كما يصفها باسل بطريقة صريحة وواقعية وبرثاء واضح في صوته، في ديسمبر 2013، أسس باسل حلب أنتيك، وهي مجموعة تعمل على Facebook، وتعد مساحة آمنة تمكن السوريين من االتحدث بانفتاح عن لغتهم، وتقاليدهم المحلية، وفنونهم الشعبية، وذاكرياتهم الجماعية – والتي يشعر العديد بأنها اندثرت وضاعت على مدار عقد كامل من الحروب الأهلية.
مجموعة حلب أنتيكا عزيزة في قلب باسل، حيث كانت ومازالت كما وصفها “وسيلة للحفاظ على ارتباطي بمدينتي لأنني كنت أعرف بأنني لن أعود، لثقتي بأن الحرب سيطول أمدها.” وفي استرسال للحوار والنقاشات، واصل باسل حديثه واصفًا إياها بأنها “منتدى محوري مفتوح لتبادلات الآراء،” بالنسبة لأي شيء يتعلق بسوريا، كان هذا المشروع بالتأكيد وسيلة باسل لتذكر ثقافته وإعادة تصور حلب افتراضيًا، وبناء ثقافة مضادة للتصور السائد للمدينة. استطرد باسل ذاكر، “بطريقة ما، يبدو الأمر وكأنه إعادة بناء لحلب – محاولين العثور على شيء يشبهنا في عالم الوسائط الرقمية، شئ يتعارض مع الصورة السائدة التي تحاول وسائل الإعلام بثها عن سوريا.”
حلب هي النغمة الموسيقية التي لازمت حياة باسل منذ نعومة أظارفه. ولد باسل ونشأ في حلب لعائلته الموسيقية التي ينتمي إليها، حيث تربى باسل وسط تسعة أعمام جميعهم موسيقيون. يسلط باسل الضوء على شجرة عائلته، واصفا إياها بأنها تاريخ طويل من الموسيقى يمتد إلى القرن التاسع عشر. “كان جدي مؤذنًا صوفيًا في أحد أقدم مساجد حلب التي يعود تاريخها إلى القرن الثالث عشر … وكان جدي الأكبر مطربًا صوفيًا بارزًا (منشدًا). الموسيقى تتغلغل في سلالتي ما يقرب من 130 عامًا على الأقل.”
يخبرني باسل المزيد عن طفولته وعن تأملاته الذاتية التي دفعته نحو اختيار نوع محدد من الموسيقى بينما كان في سوريا: “بدأت العزف على الكمان في سن السادسة … ثم ذهبت إلى مدرسة الموسيقى ودرست الموسيقى الكلاسيكية حتى بلغت 18 عامًا؛ ثم عزفت عنها لأنني لم أجد بداخلي جواب حول سبب عزفي الموسيقى الكلاسيكية .” يشرح باسل بمزيد من التفصيل، متطرقًا إلى الطبقة والاتجاه في سوريا، قائلاً: “الموسيقى السورية هي نوع من الفولكلور التقليدي، أما الموسيقى الكلاسيكية تعتبر ضرب من ثقافة النخبة. عندما كنت صغيرًا، كنت أحلم دائمًا بعزف الموسيقى الكلاسيكية في الخارج، حيث بدا لنفسي في سن الثامنة عشرة من عمري أن مدينة حلب تحد من طموحي. ومع ذلك، عندما نشبت الحرب … أعتقد أننا جميعًا مررنا بنوع من التحول في مفاهيمنا.”
يصف باسل التحول في منظوره لحلب، وكذلك رحلاته إلى مدن مختلفة، حتى وصل إلى لندن. يذكر، “بالنسبة لي، كلما ابتعدت عن المدينة، كلما زادت جاذبيتها. لندن هي أبعد المدن التي رحلت إليها. لقد عشت عامين في الأردن، وأربع أعوام في تركيا والتي لم تكن بعيدة جدًا عن سوريا، ولكن حياتي في لندن ولدت شعورا بالارتباط بمدينتي لم أعيشه من قبل. الأمر كله يسيطر علي الآن. الأمر برمته يعود إلى أنه في مدينة متعددة الثقافات مثل لندن، ليس هناك وقت لتكون أي شيء سوى أن تعيش حقيقتك.”
كان الشعور بمزيد من الارتباط بمدينته منذ اندلاع الحرب يعني أن حب باسل للموسيقى الكلاسيكية قد تأجج بداخله من جديد. “أنا مهتم حاليا بالموسيقى العربية الكلاسيكية. أنها تجسد ثقافتي الأصلية؛ مدينتنا، أجواءنا. أشعر بأنني حقًا أعتنق جذوري.”
وحيث يجمع باسل بين شغفه بثقافته وتصميمه على جعل محنة اللاجئين السوريين في طليعة المناقشات الإعلامية السائدة، ينتج مزيجًا جديدًا من الموسيقى، تختلط فيها الموسيقى العربية التقليدية مع أنواع موسيقية أخرى، مثل موسيقى الجاز والسلتيك والجيبسي. كما وضعها باسل، ” الاختيار ليس غريبا كما يبدو. ليس من الصعب ملاحظة مدى صدى موسيقانا [الموسيقى العربية التقليدية] على العديد من الثقافات الموسيقية الأخرى، مثل مزمار القربة الاسكتلندي، على سبيل المثال .” يخبرني باسل عن الغرض من هذا الاختيار، قائلاً: “إذا خرجت، بمفردي، أعزف موسيقاي الفريدة، فسوف يُنظر إلى على أنني “الغريب”، لكن عند مزجها بموسيقى سلتيك، على سبيل المثال، سيساعد في جذب الناس على الانخراط في الموسيقى العربية التقليدية، وسوف يتعلمون أن جميع أشكال الموسيقى تحمل نفس المبادئ الأساسية […] وسوف يتفاعلون مع موسيقى حلب التي لم تكن مألوفة بالنسبة لهم.”
يلعب الجمع بين الموسيقيين المختلفين وأنواع الموسيقى المختلفة معًا دورًا رئيسيًا في تفاؤل باسل بالمستقبل، ومكانتها بالنسبة للسوريين. بعد أن أسس باسل استوديوًا منزليًا صغيرًا، واصل عزف موسيقاه من غرفة نومه خلال عمليات الإغلاق بسبب جائحة Covid-19 المستجدة، وبثها مباشرة عبر ناديه “JamArabia” على تطبيق Clubhouse. جامارابيا هو مساحة مفتوحة للإبداع الموسيقي من خلال تطبيق Clubhouse. وهو يهدف إلى استكشاف التنوع الثقافي في العالم من خلال دعوة فنانين محترفين وهواة لمشاركة موسيقاهم وقصصهم مع حشد من محبي الموسيقى والفن من مستخدمي Clubhouse. تدير المساحة جلسات حشد منتظمة تنظم أسبوعيًا، حيث يؤدي الفنانون الموسيقى الحية معًا (عبر المناطق الجغرافية والمناطق الزمنية)، حيث يفكرون بشكل إبداعي، خارج الصور النمطية والتسميات الثقافية المتخصصة.
“جمارابيا ليست خدمة بث راديو أو موسيقى، بل إنها مساحة لخلق موسيقى جديدة وحقيقية تركز على الإنسان وتحفيز الحوار الذي يتحدى جميع الأعراف والافتراضات السياسية والاجتماعية المحيطة بصناعة الموسيقى، خاصة في العالم العربي. ومن ناحية أخرى، فإنها تهدف إلى الابتعاد عن الفهم الغربي المستشرق للثقافة العربية (والتي تعد الموسيقى جزء منها)، ويقترح إطارًا جديدًا، يتم من خلاله إعادة توحيد الموسيقى العربية، وإعادة دمجها مع أصولها التاريخية وغيرها من الانتماءات الثقافية، بحيث يتم إعادة وضع الموسيقى الشرقية في المكانة الذي تستحقها.”
كانت النتائج ساحقة. “لقد ساعدني ذلك على النجاة من الوباء من خلال إنشاء شبكة أمان افتراضية، ومجموعة دعم من الفنانين الرائعين، حيث نجتمع تحديدا على شيء واحد مشترك، وهو حبنا للموسيقى …”
ختم باسل حديثه معي مؤكدا، “إن كل هذه الأنشطة التي ذكرتها لكي ترسم صورة لي حول من أكون. إنني أتطلع في الأيام القادمة إلى كتابة وتسجيل موسيقاي الأصلية، وتقديم مثال للعالم عما يشعر به السوريون.
🌿
أجرت المقابلة: حليمة خاتون