.حاورتها دانيا البيطار والتقط الصور عبد المنعم عيسى
درستِ القانون والسياسة وبعد ذلك كرستِ نفسكِ لكتابة الروايات، كيف أخذتِ هذا القرار ؟
هذا صحيح، درستُ القانون في الجامعة، لكني لم أعمل يومًا في تخصصي ولم يؤثر القانون على كتاباتي. في الحقيقة دفعتني السياسة للكتابة. ولدت في وسط سياسي خصب، أب ماركسي، وعائلة كردية منقسمة بين ولاء سياسي لأحزاب قومية كردية ولأحزاب يسارية معارضة. من هنا تشكّل وعيي وسلكت معبرا مغايرا للسائد. بدأت أدرك بأهمية وجودي ورغبتي في التغيير ومعاكسة المألوف. وكوني امرأة، فهمت المسؤوليات التي تقع علينا نحن النساء ومررت بتجارب لم تكن سهلة. كل ما عشته وأمر به اليوم من تناقضات اجتماعية وسياسية، جعل من الكتابة سبيلي لصوتي الغاضب. بمعنى أن الكتابة كانت في البداية فعل احتجاج على الشروط الاجتماعية والسياسية المحيطة بي.
اللامتناهي عنوان لواحدة من رواياتك ، وهذا عنوان مثير للإهتمام، أخبرينا عنها؟
اللامتناهي، كان أول كتاب مطبوع يصدر لي، لكنني بدأت بالنشر قبله بسنوات، وكانت لي تجربة مهمة وقاسية مع الصحف والمجلات العربية. حيث بدأت بكتابة القصة القصيرة، واخترت آنذاك أيضًا كنوع من الاحتجاج، الكتابة الإيروتيكية، ونشرت لي مجلة الناقد اللبنانية المثيرة للجدل نصي الخادش للحياء، كما أعتبر لاحقًا من قبل الأوساط النقدية الذكورية، وظهر اسمي على زاوية غلاف المجلة، حيث توضع أسماء كبار الكتاب مثل سميح القاسم والصادق النيهوم وغيرهما، وكانت مجلة الناقد نافذة نقدية للثقافة الأصولية ومعارضة للفكر الديني. رفضت الرقابة في سوريا منحي الموافقة على نشر مجموعتي القصصية، وأثيرت ضجة اجتماعية أخلاقية حولي في الوسط الثقافي المتزمت في حلب، فاعتكفتُ عن الكتابة لبعض الوقت حتى عدت بـ (اللامتناهي) بعد سنوات. رواية حملت تصوراتي عن تركيب الإنسان المتعدد، كوني ابنة ثقافة متعددة، مولودة في بيئة كردية، يسارية، إسلامية، قمعية للمرأة مهما تنوعت واجهاتها الحضارية أو الثقافية.
في غربتك اليوم، ماذا يعني لك الوطن؟
لقد عشت تجربة المنفى على دفعتين. في سنة ٢٠٠٤ وصلت لوحدي إلى فرنسا. بذلت قصارى جهدي للاندماج في المجتمع الذي احتواني وحماني، وحصلت على الجنسية الفرنسية. فكرت جديا بالعودة إلى سورية واختبار العيش فيها بعد الابتعاد عنها لسنوات عدة. إلا أن اندلعت الاحتجاجات، وحصلت موجة هائلة للجوء، رمت قسما كبير من السوريين الذين أعرفهم في فرنسا ودول أوروبية أخرى.
عشت الفقد مرتين، كانت الأولى عاطفة خاصة بي وبذكرياتي الشخصية، حارتي، صديقاتي، جاراتي، أمي، أخواتي، طبق الفول صباح كل يوم جمعة، وكان هذا طقسًا عائليا مقدسًا هناك، وأعني حلب. كل التفاصيل الحميمية التي كنت أحن لها خلال سنوات منفاي الأول. ثم جاء المنفى الصادم، العنيف، منفى الحرب، فقتل مشاعري ورغباتي التي بدت ساذجة، الحنين إلى صحن الفول وقهوة أمي وأغاني الصباح وشجرة الفل على سطح منزلنا، لتكبر مساحة الحنين وتصير معلقة بالمكان ككل. قتلت الحرب جاراتي وصديقاتي وهدمت بيتي في حلب وقتلت الفوال، واقتلعت الأشجار، صار حنيني كبير ومستحيل، حنين فقط للسير في شوارع حلب.
نبقى في المنفى، ما هي الفرص والتجارب الجديدة المتاحة لك في بلاد الغربة كامرأة وروائية؟
منحتني فرنسا وجودًا جديدًا، ولدت من جديد هنا، حصلت على وثيقة ميلاد فرنسية، تحمل جنسيتي الجديدة، حصلت على الأمان هنا، كان حلمي دائمًا الحصول على مكان آمن لأكتب، تحقق هذا الحلم لي في فرنسا وطني المختار الذي أمن لي الحرية و عوضتني عن كل الميزات التي كانت متاحة لي في سوريا، حماية العائلة، الدفء الاجتماعي، البيئة العاطفية. لأحتمل قسوة الحياة الصارمة في باريس، لأحمل غربتي كحدبة ثقيلة فوق ظهري، وأقول أنني ولدت لأروي وأكتب، والمهم الحرية. من فرنسا انطلقت نحو العالم العربي، هنا في باريس، كتبت أولى رواياتي ضمن شرط الحرية الجديدة (الحبل السري) التي أخذتني إلى لائحة جائزة “البوكر”. ومنها تتالت إنجازاتي. لو أنني بقيت في سوريا، لما كتبت، ولا حققت تواجدي في المشهد الثقافي العربي الذي دخلته من بوابة خروجي من سوريا. لقد عرفني العالم العربي والقارئ العربي ككاتبة في المنفى، بينما كانت الرقابة السورية ومؤسساتها تمنعني من النشر.
عام 2011 تم ترشيح روايتك “حبل سري” للجائزة العالمية للرواية العربية “بوكر”، أخبرينا عن هذه التجربة.
منحت جائزة البوكر رواياتي حقها في الظهور في سوريا والعالم العربي. إن وصول اسمي إلى لائحة البوكر هو رد اعتبار لي ضد الرقيب السياسي أولًا، وهذا ما جعل أعمالي مقروءة في العالم العربي، وفي سوريا أيضًا، حيث كان يجهل القارئ السوري وجود كتاباتي بسبب التضييق عليّ في نشر كتبي في سوريا، وعدم حصولي على الموافقة للنشر وفق السائد في سوريا، واضطراري للتوجه إلى بيروت لنشر رواياتي.
بالإضافة إلى كتابة الروايات، ماهي مشاريعك الكتابية الأخرى؟ وماهي اللغات التي تكتبين بها أو تترجم أعمالكِ إليها؟
صدرت روايتي “طبول الحب” باللغة الإيطالية، ووقعت عقد لترجمة رواية “مترو حلب” أيضًا بالإيطالية، وستصدر لي هذا العام رواية “عمت صباحًا أيتها الحرب” باللغة الفرنسية. ولدي مشروع رواية أكتبها بالفرنسية مباشرة، أتوقع الانتهاء منها في نهايات العام الحالي.
كتابك “مترو حلب” مدرج في القائمة المرشحة لجائزة “الشيخ زايد للكتاب”، أخبرينا عن حلب في وجدانك.
أسطحة البيوت القديمة المليئة بالورود، الحارات القديمة الضيقة وبلاطها الأسود الخاص والمتميز، روائح الطبخ التي نشمها في الأزقة ونتكهن بأسماء أطباقها. الأسواق القديمة والمنتجات غير الموجودة في أوروبا مثل الحناء-أكياس الحمام-صابون الغار الحلبي-الزعتر-السماق- – أغصان الياسمين المنحنية والممتدة خارج أسوار البيوت والمتدفقة بكرم نحو الشارع. كل تلك التفاصيل وغيرها، أحاول استدراجها في كتاباتي لأستعيد روائح حلب المنعشة التي لا تتشابه مع أية روائح في أية مدينة أخرى.
حيث أفتقد كل شيء في حلب، روائحها، موسيقاها، جلسات الناس أمام البيوت المفتوحة، أحاديث الجيران عبر النوافذ والشرفات، وكثير من الأمور، دون أن أقع في فخ المبالغة فأنسى عدم إنصاف المرأة مقارنة بالرجل. ونقص الحريات.
كتبتِ عن النساء في العالم العربي وجرائم الشرف في رواية “بنات البراري”، ما هي رسالتك الضمنية من هذه الرواية؟
كانت هذه الرواية بمثابة انعطاف في طريقتي السردية ومواضيعي، حيث تجنبت من قبل مواجهة العنف ضد النساء في كتاباتي، وكنت أخاف من الوقوع في مطب المباشرة والمواضيع الاستطلاعية الأقرب إلى الصحافة منها إلى الرواية. لكن وجودي في فرنسا، منحني مساحة كيبرة من التأمل، لأنظر إلى ماضيّ المتروك في سوريا، وأتذكر قصص النساء المعذبات، وتصلني أصوات نساء قتلن ودفن بصمت، واكتشف أن عليّ أن أواجه هذا الموضوع الشائك، وتمكنت من ابتكار طريقة سردية خاصة، لجأت فيها إلى الفنتازيا حتى أحقق معادلة السرد الجمالي المترافق مع القضية الحساسة، قتل النساء بدافع الشرف. لم تكن لدي رسالة خاصة، فأنا لا أواجه الرسائل في كتاباتي الروائية، إنما أرصد وأنقل ما أراه وأشعر به، وأترك للقارىء حرية التأويل. ربما الرسالة الضمنية موجهة لي أنا شخصيًا: أنه ينبغي عليّ ألا أنسى أنني امرأة، ولأنني امرأة عاشت في ذلك المجتمع، وصارت كاتبة.
ماذا تأملي لسوريا وللجيل السوري الجديد؟
الحرية. هذه الكلمة الصغيرة وهي هاجسي الأزلي. الحرية تفتح أبواب التفكير، وتنتج الحلول، تخلق الإبداع، وتغيير العالم. لا شيء أثمن من الحرية، وطريقها صعب، يبدأ من مواجهة الأفكار التقليدية المزروعة عبر أجيال طويلة في داخل كل منا، حيث نكبر أمام حواجر تتحول فيما بعد إلى جدران صلبة وأطول منّا فيصعب تجاوزها. الحرية هي تفكيك الذات أولًا، والآخر وكل المفردات المحيطة بنا. الحرية هي أول الخيط نحو النضج، سواء على صعيد الفرد أو على على صعيد المجتمعات.