بالنسبة لي، توقفت الحياة في الحسكة منذ غادرتها، وكأن آلة الزمن تعطلّت وتركها المصّلح على رف دكانه وأغلق محله وهاجر. يا حسكة يا مدينتي الصغيرة القابعة في الشمال الشرقي من سورية، احتضنتِنا نحن الحسكاويين باختلافاتنا وخلافاتنا وتشابهنا وتوحدنا. واليوم أنتٍ في الذاكرة صور.
قصة خضر ادريس
من الصور التي لا يمكن أن تُمحى من ذاكرتي وجوه الرجال الحسكاويين المكفهّرة أيام الشتاء، وكلما سألت والدتي عن السبب يكون ردها صناعة امرأة من خشب ثم تبرّعت واحدة من عجائز الحي بقطع من ثيابها التقليدية لكسوة المرأة الخشبية. أتحمس مع أطفال القرية لحملها لكن طفل واحد فقط يختاره أهالي الحي لحمل اللعبة أو المرأة الخشبية. يعتقد الكبار أن من يحمل المرأة الخشبية يجب أن يكون مخلوقا طاهرا وبريئا ولا يحقق هذه الشروط إلا الأطفال. يحمل أحدنا تلك المرأة الخشبية ونحيط به أنا والأطفال ونمشي معاً ونزور كافة منازل القرية ونحن نردد بصوتٍ عال معاً (أم الغيث غيثينا بلي بشيت راعينا. راعينا اقرع صارلو سنتين ما يزرع).
يقدم لنا أهالي المنازل التي نزورها حفنات من حبوب الرز والبرغل والعدس والشاي والسكر وقطع الخبز أو أي شيء، يحتّم عليهم كرمهم أن لا يردّونا خائبين. وبعد أن تمتلئ جيوبنا وأكياسنا بالطعام، نتجمع في وسط الأراضي الزراعية الجافة ونتعاون لننصب خيمة خاصة بنا ونحن نتابع الغناء (ام الغيث غيثينا بلي بشيت راعينا راعينا اقرع صارلو سنتين مايزرع ) حالما ننتهي من رفع وتثبيت الخيمة ندخلها ونملأها بالبهجة والفرح. كانت لحظات لا تُنسى، لحظات لشعور بالحرية المطلقة حيث لا يتحكم الكبار بنا وبما نفعله، بل على العكس هم من يوفر لنا طقوس الحرية لأننا بالنسبة لهم المخلصون والمنقذون، كانوا يتودّدون لنا ويراقبونا بحب ونحن لا نعرف ماذا كنا نفعل وماذا تعني الأغنية التي كنا نرددها بدون توقف. لكن مع مرور الزمن عرفت معنى كلمات الأهزوجة وعرفت أن أم الغيث هي السماء وغيثينا أي أنقذينا واهطلي علينا بسخاء. بلّي بشيت راعينا اي بللي ذلك الشيت وهو الرداء الصوفي السميك الذي اعتاد راعي الغنم على ارتدائه. ومن المعروف أن الصوف لا يتبلل الا إذا تعرض للماء المنهمر بغزارة وهذا يعني أننا نريد من السماء أن تنزّل مطرا وفيرا يبلل هذا الرداء الثخين. راعينا اقرع اي انه أصلع الرأس. صارلو سنتين مايزرع، وهذا أمر غير معتاد في مكان مثل محافظة الحسكة وهي مصدّر للقمح والشعير لباقي المناطق السورية.
وفي نهاية ذلك اليوم، نقوم بطبخ كل شيء حصلنا عليه من الأهالي بقدر كبير لنأكله داخل الخيمة، ثم نعطي للمرأة الخشبية صحنا ملأناه بالطعام ثم نحملها ونضعها في وسط الأراضي القاحلة ونضع طبق الطعام بجانبها ونعود لننام في تلك الخيمة الصغيرة حتى يهطل المطر على المرأة الخشبية وعلى خيمتنا. حينها يجب أن نترك المرأة الخشبية وحيدة تحت المطر ونعود أنا وباقي الأولاد إلى منازلنا، نركض ونغني تحت المطر فخورين بأن مجهودنا أثمر وأنقذنا كل القرية من الجفاف.
اليوم وبعد ٢٢ عام، وبسبب سفري والحياة أجبرتني بأن ألتقي بأشخاص كثر ومختلفين، علمت بأن أخوتنا الأكراد لديهم نفس العادة لكن يطلقون عليها اسم (بوكا براني ) و السريان وهم من سكان سوريا الأصليين يفعلونها ايضاً. والأمازيغ في بلاد المغرب لديهم عادة مشابهة وقبائل أخرى لا نعرف بعضنا جيدا لكننا نشترك بمعرفة (أم الغيث) السماء العجوز.
صور خضر ادريس