منطقة الفرات ذات غنى كبير بالنتاجات المعرفية والتطبيقية، وعلى الرغم من العديد من المحاولات الطموحة لإحياء الثقافة المرتبطة بالتراث اللامادي إلا أنها لم تكن على المستوى المطلوب مقارنة بغيرها. ولعل أهم ما يمكن القيام به هو توفير المناخ الملائم لاكتساب المعرفة عبر وسائل التعلم المتاحة والتركيز على هذا التراث ضمن المناهج الدراسية كمادة رئيسة لفهم التراث والحفاظ عليه
ما هي الطرق التي يمكن أن يساعد بها فهمنا لتراث منطقة ما في إعادة بنائها؟ ما هو الدور الذي يلعبه جسر دير الزور المعلق في ثقافة ووعي المدينة؟
تتميز سورية بتنوعها الثقافي الكبير، وهي الوعاء الذي يضم تراث موغل في القدم ذو خصوصية تفردت به، وعلى الرغم من التقصير الذي واجه التراث خلال السنوات العشر الأخيرة إلا أن التراث السوري أصبح ـ خلال الحرب ـ معرّضاً لخطر الاندثار. وإني أصف التراث بأنه كائن حي له شكل وصوت ورائحة يعيش في الوجدان، وذو تاريخ وذكريات، وله هويته مثل أي سوري.
لكي نستطيع إعادة إعمار تراث مدمّر لا بد لنا أن نكون على معرفة تامة بكل التفاصيل المكوّنة لهذا التراث معمارياً وفنياً وإنشائياً وتاريخياً واجتماعياً وتقنياً .. إنه كلٌّ في واحد، ولكل باب من التراث (المادي واللامادي) طريقة في إعادة إعماره أو إحيائه، فالعمل في المباني الأثرية تحددها الدراسة الخاصة للمبنى كما كان قبل الأضرار وبعدها. والمواثيق الدولية المختصة بأعمال الترميم تتحدث عن أُسس وعناوين تلك الطرق، ولكن الدراسات الفنية والتفصيلية التنفيذية يجب أن تُرسم لكل مشروع على حدى. فيما عدا أن أعمال الترميم وإعادة الإعمار لا يوجد لها قوالب ثابتة أو صيغاً جاهزة أو طرقاً محددة تُطبق على الحالات المختلفة، وإنما كل مشروع يجب أن يُدرس كحالة لها خصوصيتها واستقلاليتها وتفاصيلها انطلاقاً واعتماداً على أُسس ومنهجية العمل في هذا الحقل، وفي إعادة إعمار التراث السوري.
أما الجسر المعلق فهو ذاكرة وهوية الفراتيين ورمز المدينة على الرغم من حداثة بنائه، وله من الميزات ما جعلت أبناء المنطقة يتعلقون به، فكما ربط الجسر بين ضفتي الشامية والجزيرة فقد ربط أيضاً ذاكرة أبناء المنطقة بأحداث مرت عليه، حيث يعبر عليه كل عروسين في بداية حياتهما الجديدة، وهذا الحدث مفصل جديد يبدآنه تيمناً بحياة جديدة مثلما يسموه (الجسر الجديد)، وطقساً يرتبط بالفرات ممزوجاً بالكثير من الرومانسية.
إن التراث أثْرى وأثّر حتى في النمط المعماري لهذا الجسر، فلم يستطع المهندس “المسيو فيفو” إلا أن يتأثر ـ معمارياً ـ بأقواس الأسواق القديمة (1864)، ليجعل لكل دعامة جسر ثلاثة أقواس وفق نمط فريد من ربط الماضي بالحاضر، وكذلك أبناء المنطقة لم تخلُ ذاكرة أحدهم من صورة أو حدث أو قصة عشق بما يحيطه من بيئة الفرات كأشجار الغَرَب والصفصاف وفق بيئة مغايرة تماماً فيما لو اتجهنا غرباً بمسافة 10 كم، حيث ننتقل إلى حياة البادية البعيدة بيئياً عما نعيشه على الفرات.
الجسر المعلق هو عند الديريين “مقاومة” عندما أراد الفرنسيين تفجيره، وهو “شموخ مبنى” بأعمدته التي تُرى من مسافات بعيدة، وهو صلة وصل بين ضفتين مثلما هو صلة وصل بين حبيبين وهو أيضاً أثر فرنسي طبع المنطقة برمزه وساهم بترسيخ إرثها المجتمعي. كل هذا جعل من الجسر المعلق أثراً واجب على أبناء المنطقة إعادة بنائه عرفاناً بالجميل وتكريساً لجزء من تاريخ المنطقة الحديث.
كيف اهتممت بعلم الآثار؟ أين وكيف تم تدريبك؟
لحسن حظي أني نشأت في بيئة غنية بكل مفردات التراث وحبه، فوالدي المرحوم أحمد شوحان مؤرخ وباحث، كتب / 107 / كتاباً في التاريخ والآثار وتراث المنطقة، وأورثني هذا العشق. فدخلتُ كلية الآداب والعلوم الإنسانية / قسم الآثار بجامعة دمشق كإحدى أفضل خيارات درجات الثانوية العامة، ورغم ميولي للتاريخ والجغرافية فإن علم الآثار وفّر لي الرغبتان في الحقل الميداني أثناء التنقيبات وأعمال الكشف والمسح الأثري. وبدأ مشوار الدراسة في هذا المجال في عام 1994 ومن ثم الانضمام لعمل البعثات الأثرية السورية أو السورية ـ الأجنبية المشتركة. فعملتُ متدرباً في باب الفرج في حلب عام 1995، ورأس ابن هانئ في اللاذقية لموسمين، وبعد التخرج عملت في موقع العشارة (ترقا)، وتوظفت في دائرة آثار دير الزور ومثّلتُ المديرية العامة للآثار والمتاحف في موقع سكر الأحيمر وتل الشيخ حمد (دور كاتليمو) ثم عملتُ رئيساً للجانب السوري في البعثة الأثرية السورية الفرنسية المشتركة العاملة في دورا أوروبوس لخمسة مواسم تنقيبية، وكذلك رئيساً للجانب السوري في البعثة الأثرية السورية الفرنسية المشتركة العاملة في موقع حلبية (زنوبيا) لثلاث مواسم، ورئيساً للبعثة الوطنية في تل القصبي، وكذلك في قلعة الرحبة في الميادين لخمسة مواسم تنقيبية. وذلك فيما عدا عملي رئيساً لدائرة آثار دير الزور 2005 ـ 2009 وتدرجي في العمل الوظيفي قبل ذلك رئيساً لشعبة المباني والتوثيق الأثري، وبعدها رئيساً لشعبة التنقيب الأثري، وأميناً مساعداً لمتحف دير الزور الوطني.
كيف يمكن الاستفادة بشكل أفضل من التكنولوجيا في المستقبل لحماية المواقع الثقافية والأثرية في المنطقة؟
لم يعد العمل في مجال التنقيب وفق (النمط الكلاسيكي) مجدياً مع تطور العمل التقني، ونستطيع أن نقول أن عصر عالم الآثار الذي يرتدي البرنيطة ويدخن الغليون ويُرسل ما يحلو له من الآثار إلى بلده قد انتهى. وأعتقد أن المشاريع التي ستُطرح في مرحلة إعادة الإعمار سيكون للآثار نصيب وافر منها في المنطقة، حيث خلال هذه السنوات العشر من الحرب في سورية تراجعت المعارف في هذا المجال بشكل كبير لدى قسم واسع من الآثاريين نتيجة عدم العمل في المواقع الأثرية وعدم الاطلاع على كل ما هو جديد في هذا المضمار. فيما عدا ذلك فإن التقنيات الحديثة في مجال الحفاظ على الآثار كمواد التوثيق أو المواد الكيميائية في الصيانة ومعالجة الحجارة أو أعمال التوثيق الإلكتروني أو التصوير بالكاميرات الثلاثية الأبعاد وحتى أيضاً باستخدام الماء السري Secret Water الذي يساعد في تتبع القطع الأثرية المهرّبة خارج البلاد عن طريق استخدام تقنيات الرصد بالأقمار الصناعية، وتصوير المواقع عن طريق الاستشعار عن بعد ومتابعة كل تغيير واعتداء عليها .. الخ. كل ذلك سيساهم وبشكل كبير في الحد من الانتهاكات التي تتعرض لها المواقع الأثرية. بالإضافة إلى العديد من التقنيات الأخرى التي عملت على توثيق المواقع الأثرية والأوابد المعمارية والتي تسمح بإعادة بناء الأجزاء المدمّرة من المواقع، كما تعمل بعض التقنيات الحديثة كبرامج حماية المتاحف والقفل الذاتي وأجهزة الإنذار المبكر والسرقة والإطفاء الآلي كلها تعمل على تأمين حماية أفضل أيضاً للقطع الأثرية.
يشتمل نهر الفرات على تراث ثقافي قديم جدًا مرتبط بتاريخ منطقة بلاد ما بين النهرين المعروفة باسم الهلال الخصيب. هذا التراث في خطر الزوال. ما الذي تقترح أنه يمكننا القيام به لتقدير هذا التراث غير المادي كجزء من تراثنا المشترك؟
هذه المنطقة ذات غنى كبير بالنتاجات المعرفية والتطبيقية، وعلى الرغم من العديد من المحاولات الطموحة لإحياء الثقافة المرتبطة بالتراث اللامادي إلا أنها لم تكن على المستوى المطلوب مقارنة بغيرها كمصر والسعودية. ولعل أهم ما يمكن القيام به هو توفير المناخ الملائم لاكتساب المعرفة عبر وسائل التعلم المتاحة والتركيز على هذا التراث ضمن المناهج الدراسية كمادة رئيسة لفهم التراث والحفاظ عليه، والتشبيك بين الباحثين وتوفير المعلومات عبر مصادر رئيسة موثوقة وتقديم الدعم المادي (بسخاء) عن طريق مؤسسات ترعى هذا الجانب من البحوث، ونشر نتائج البحوث والدراسات على الصعيدين المحلي والدولي، وتقديم التراث السوري والرافدي على حد سواء كنتاج إرث حضاري إنساني واحد بعيداً عن التجاذبات الطائفية والإثنية، ونشر وتعميق المعرفة بالتراث الفراتي أو البحوث العلمية التي تتسم بالأفكار الإبداعية والحوار التفاعلي وطرح الدراسات التي تخدم المنطقة وتعرّف بها بشكل منهجي. وعلى الرغم من طرح محاولات لتوثيق التراث اللامادي والتي كان آخرها في عام 2013 إلا أن هذه المشاريع تحتاج إلى تحديث مستمر وفيما لو تم هذا فإنه سيكون لدينا خلال بضعة أعوام (مكنز التراث) الذي يضاهي في تنوعه أي منطقة أخرى من العالم.
وإذا ما اطّلعنا على الفرات نجد أن عليه نشأة الإنسان وعليه قامت الحضارات والتاريخ والكتابة والنتاج الفكري والأدبي، ولا زلنا نتكئ على نصوص الحضارات القديمة ونعيش بها أمجاد الماضي، فكم من الشعوب تتبعت مجراه صاعدة ونازلة وكم من معارك كبيرة دارت على ضفافه وكم من الحضارات تركت لنا أساطيرها ومعتقداتها وآدابها.
بعد أن عملت مع بعثات أثرية أجنبية ، كيف يقارن ما تقدمه إلى الطاولة بما يقدمه الخبراء المحليون؟
المدرسة الأثرية السورية مدرسة حديثة نسبياً بالمقارنة مع المدارس الأجنبية الذين هم (أصحاب الكار) كمستشرقين فتنهم الشرق وآثاره، وعلى الرغم أيضاً من وجود الكادر الآثاري السوري المتميز والذي كان بداية من تاريخ 1994 مع تأسيس قسم الآثار في كلية الآداب بجامعة دمشق، إلا أن الآثاريين السوريين يسعون دائماً لتشكيل كيان أثري خليط من عدة مدارس يستخلصون من خلالها أفضل التجارب والتقنيات، وبرأيي أن العمل الأثري هو عمل يمزج كل العلوم الإنسانية في حقل واحد، وهو أن تعيش في تلك الفترة التي تعمل في التنقيب عليها. وأعترف أن هناك تقصيراً كبيراً في الطرح، لاسيما وأن من الواجب تقديم العمل الأثري والأبحاث بأبسط أشكالها لأن المُتلقي يطمح في أن يعيش تجربة الآثاري بتفاصيلها من خلال توقه للاكتشاف وولعه بالبحث، ويرغب أن يكون جزءاً من هذا الإرث، لا أن يقدم الآثاري فقط بحوثاً اختصاصية فقط يتشارك بها مع أبناء اختصاصه؟! فمهمة الآثاري هو تقريب هذا المجهول من التاريخ للناس واقتحام الفضاءات والمجاهيل وتعريفهم به.
أخبرنا عن التراث غير المادي ، الذي يتم نقله شفهًيا بطبيعته ، كيف يمكننا توعية الجيل الناشئ الذين يعيشون في الخارج به؟
يعتبر الكثير من غير المُطّلعين على التراث اللامادي أنه مصدرً للتخلف وأنه آيل للاندثار نتيجة ظهور وسائل وأدوات كثيرة أكثر حداثة. إلا أن وخلال الأزمة السورية أصبح أبناؤها أكثر تمسكاً بالتراث لأنه يُعبّر بطبيعة الحال عن الهوية، فنجد الجيل الناشئ يتغنى بالنايل والسويحلي والموليا ويستذكر خبز التنور والجبن البلدي ويستخدم في أحاديثه ومجاملاته الأمثال والشعر الشعبي. وهو بهذه الحالة لا يمكن أن ينسلخ عن هذا التراث، ومع ذلك فإن التراث يعيش حالة اغتراب أيضاً، ولا بد من تعريف الجيل على تفاصيل أكثر دقة وأصالة في فنون وتقاليد أداء العروض، كالنقر على الدف ورقص السماح والألعاب الشعبية كالسيف والترس وغيرها، أو الممارسات والطقوس الاجتماعية والاحتفالات كطقوس الأعياد وفنون الطبخ واحتفالات المصالحة والسمر عند البدو، أو المعارف والممارسات المتعلقة بالطبيعة والكون مثل رمزية النار في الجزيرة السورية والعمارة الطينية والعطارة وغير ذلك، أو التقاليد وأشكال التعبير الشفهي كواسطة للتعبير عن التراث كالعتابا والقصيد البدوي والنواح، فيما عدا عن المهارات المرتبطة بالفنون الحرفية التقليدية كصناعة البسط وصناعة دلال القهوة وصياغة الفضة.
ومن الممكن توعية الجيل الناشئ عن طريق جذبه لفعاليات التراث والتي تُشكل هوية البلد الذي ينتمون إليه، كما أنهم بهذا الوعي سيكون لديهم المواجهة والتحدي والإصرار على للمحافظة على مفردات التراث، وقد تسمح المنتديات ودور المسرح والمهرجانات التراثية في أوربا على توعية الجيل الناشئ بخصوصية هذا التراث وتميزه، ويساعد في ذلك تعرفهم على المطبخ السوري ومشاركة الآخرين به، بالإضافة إلى الارتباط بصداقات مع جمعيات ومراكز ثقافية تعمل على الحفاظ على الهوية الثقافية. وبالواقع فإنني أحلم بإنشاء مركزاً للتراث الفراتي السوري ونشر الدراسات التي تهتم بمنطقة وادي الفرات الأوسط في الداخل السوري أو خارجه لإعادة إحياء هذا التراث الغني بكل تفاصيله.
هل هناك أي شخصيات نسائية هامة تتعلق بالتراث الثقافي للمنطقة الفرات؟ من هن ولماذا؟
المرأة الفراتية هي مكنز تراثي بحد ذاته، فحياتها كلها مرتبطة بتفاصيل هذا الإرث، فنجد من الفراتيات من حافظت على البكائيات ورثاء الراحلين مثل القاصودة خرمة السليمان في منتصف القرن التاسع عشر، والتي وثّقت بأشعارها طقوس رثاء الموتى والكثير من واقع الحياة الفراتية في تلك الفترة، وتُعد المرأة الأكثر شهرة ممن حافظن على التراث، وهناك نساء أخريات تركن بصمة في الوعي النسائي في المنطقة مثل لبيبة الدخيل وماريا الصباغ ومحسنة العياش وتماضر الموح التي استطاعت بشعرها الشعبي الحفاظ على الطابع الفراتي الأصيل.
هل تعتبر المطبخ جزًءا من التراث الثقافي؟ كيف برأيك يمكن التعريف بمطبخ منطقة الفرات وتقديره بشكل أفضل في سوريا وخارجها على قدم المساواة مع مطابخ حلب ودمشق؟
يُعتبر المطبخ من أهم أجزاء التراث الثقافي، ويعود ذلك لأنه يرتبط بالعديد من الطقوس (إن صح التعبير)، وخصوصاً مطبخ منطقة الفرات حيث نجد أن طبخة (الفورة) أو (السيّالي) هي وجبة شتوية تؤكل عادة في أيام الجمع ويُدعى إليها الأصدقاء، أو (ثرود البامية) الذي يحظى باهتمام كبير من أبناء دير الزور وريفها وتعتبر رمزاً للمطبخ الديري عدا عن إعداد أنواع المربيات وغرفة المونة التي كانت تضم شتى أنواع الطعام المُحضّر يدوياً.
لم ينل المطبخ الفراتي فرصة للتعريف به كما يجب، وهو لا يقل تنوعاً عن بقية المطابخ السورية، وعلى الرغم من أصالته التي تعود بتاريخها لأكثر من ثلاثة آلاف عام إلا أنه أيضاً مزيجاً بين ما تحمله ثقافة الطعام في الجزيرة السورية أو المطبخين التركي والعراقي. إذاً نحن أمام عراقة في التذوق والتنوع وفنون الطبخ، وبالتالي فإن من السهل التعريف به في سورية أو خارجها من خلال برنامج يقدم وصفات الطبخات التراثية الفراتية ومقاديرها، وحسبما رأيت خلال عملي مع العديد من البعثات الأثرية الأجنبية أن الغرب يميل للطبخات الفراتية في رغبة لكسر روتين الطعام اليومي والذي يعتمد في معظمه على الوجبات السريعة، وبالإمكان أيضاً أن تُقدم البرامج الوثائقية الكثير من هذه الطبخات لتُعيد لأبناء الفرات في الخارج ارتباطهم بتراثهم، ونشر هذه التفاصيل على وسائل التواصل الاجتماعي وإغناء هذه المنشورات بالصورة والفيديو.
منذ آلاف السنين ، كانت المنطقة مأهولة من قبل المجتمع البدوي ، بصرف النظر عن التقليد القديم لسرد القصص شفويًا، متمثلاً في الحكواتي. تم تجاهل التراث البدوي والتقليل من قيمته إلى حد كبير؛ ما هو رأيك في هذا؟
أصبحت المنطقة وسورية بشكل خاص أقل تمسكاً بالتراث البدوي إذا أردنا المقارنة بدول الخليج مثلاً، إذ لم تُرسخ هذا التراث في أذهان الناشئة، عدا عن ذلك فإن ضياع التراث يرتبط بشكل مباشر في اللحاق بالتطور العمراني والتقاني واللغوي على حساب الأصالة، وهنا لا أتجنى على أي سلطة ثقافية عندما لا تدعو إلى الحفاظ على هذا الإرث، خصوصاً وأنه يحمل من المفردات التراثية واللغوية ما قد يفوق المجتمعات الرعوية بكثير في المنطقة، وفيما عدا هذا أيضاً فإنه تراث ذو ارتباط وثيق بتاريخ المنطقة العربية ككل ولا يعترف بالحدود فهو تراث عابر للأراضي، ينتشر وينشر أصالته وقصيده وتقاليده وتميزه. ويعود هذا العمق الحضاري إلى ما يزيد عن خمسة آلاف عام، لكن مؤخراً ما لبث توجه السلطة إلى توطين البدو يأخذ منحى آخر، فأصبحت الثقافة البدوية تذوب شيئاً فشيئاً أمام التطور المدني. وبالتالي فإن بعض المجتمعات ودّعت حياة البداوة بما يشبه انقلاباً اجتماعياً، وأخرى حافظت عليها أو على القليل مما تبقى من هذا التراث. ويلعب الإعلام الدور الأكبر في تغييب هذا الجانب الهام من التراث السوري وخصوصاً خلال السنوات العشر الأخيرة حيث نجد تراجعاً في طرح الدراما (حتى وإن كانت معظمهما طروحات هزيلة) والتي كانت تُوثّق لحدٍ ما أسلوب الحياة البدوية. وأجد أن مسألة تجاهل هذا التراث هي خطوة خطيرة تهدف إلى إلغاء أو استبعاد هذا التراث في سعي للقضاء على الترابط القبلي الذي تتميز به البادية. أضف إلى ذلك أن التراث البدوي يرتبط بعناصر مادية ولا مادية، إلا أنه أمام خطر يهدد الممارسة.
ويتنوع الحفاظ على عنصر دون آخر في هذه الثقافة، فمثلاً نجد أن البدو يتمسكون بتقاليد العرس البدوي حتى وإن أصبحوا من أبناء المدن، وبالوقت نفسه فإن هذا التقليد يبقى قابلاً للاستدامة بمقدار احترامهم لتقاليدهم الخاصة، ويتفاوت البدو في الوقت نفسه بشكل كبير في شغفهم بالحياة المدنية وترك التقاليد واعتبارها تراثاً لا يمكن أن يُعاش.
ما هو شعورك حيال الوضع الحالي للخط العربي كشكل من أشكال التعبير والفن في دير الزور؟
الخط العربي كان ولا يزال أحد أهم اشكال التعبير الفني في دير الزور، وعلى الرغم من دخول الخط العربي مجال الفن التشكيلي إلا أنه بدأ يتحول إلى الابتعاد عن الأصالة ويفقدها شيئاً فشيئاً وذلك بعد أن ساهمت البرامج الحاسوبية في فقدان نكهته العربية الأصيلة، فالخط العربي رائحة حبر وصرير قصبة وعشق حرف. واشتُهرت دير الزور بخطاطين كبار على مستوى عالمي مثل محمد القاضي وعبيدة البنكي ومحمود حسن ووليد علوش الذي تتلمذت على يديه. وهناك أيضاً خطاطين مزجوا الفن التشكيلي بالحرف العربي فكانت لوحات زاخرة باللون خارجة عن ثقل ميزان الحرف، جميلة التشكيل، بعيدة عن الأصالة، وفي رأي أصحابها أنها أكثر تحرراً من قواعد الخط الصارمة.
ما هي الكتب والأفلام الوثائقية التي توصي بها لأولئك الذين يرغبون في التعرف على الثقافة والتراث والفنون الفريدة في المنطقة؟
حظيت منطقة وادي الفرات الأوسط باهتمام باحثين تركوا بصمة كبيرة مثل المرحومين عبد القادر عياش وأحمد شوحان، وهذان الباحثان تركا أثراً كبيراً مثل مجلة صوت الفرات التي تتحدث عن منطقة وادي الفرات الأوسط وعاداته وتقاليده، وكتب المرحوم أحمد شوحان مثل الأمثال الفراتية والعشائر الفراتية، طرائف عمر الديري، تاريخ دير الزور، أعلام الفرات، وغيرها من الكتب التراثية. وكتاب عشائر الغنّامة لهنري شارل، أما الأفلام الوثائقية التي تتحدث عن تراث المنطقة فهي قليلة وبشكل كبير، وما هو موجود يُوثّق المُوثّق، لكن ما نحتاجه هو الجديد في الأفلام الوثائقية القصيرة، وأعتقد أن التوثيق العفوي بالصوت والصورة أكثر تفاعلية وحميمية من المواد الفلمية المُحضّر لها، لكني أكثر ميولاً لما يُنشر من فيديوهات تراثية متنوعة على صفحات التواصل الاجتماعي.